غياب مهنا الدرة.. حين يكون الفنّ مسكناً

25 يناير 2021
(مهنا الدرة، 1938 - 2021)
+ الخط -

رحل الفنان الأردني مهنا الدرّة (1938 – 2021) أمس الأحد في عمّان بعد صراع طويل مع المرض، الذي عاش مخلصاً لغواية الرسم التي استدرجته طفلاً في العاشرة ولم يفارقها أبداً، وبنّاءً ساهم في تشييد العديد من المؤسسات والهيئات الأردنية المعنية بالفن. فعل كلّ ذلك وأكثر بروح ملؤها التواضع الجم وإنكار الذات دون أن يحجبا ذكاءه الحاد وروحاً نذرها للجمال.

أغرم الطفل الذي ولّد لأب من أصول لبنانية يعمل مفتشاً في وزارة التربية والتعليم، ببساطة مدينة الكرك (140 كلم جنوب العاصمة الأردنية) وغموضها في آن، وهناك وهو يستمع إلى تلك الخرافات والأساطير حول من يدخلون قلعتها (التي يعود بناؤها إلى عهد المؤابيين في القرن التاسع قبل الميلاد)، ولا يخرجون منها، وسراديبها التي تنفتح على عوالم تعيشها كائنات أسطورية حفّزت مخيلته صغيراً، وربما هي التي نفّرته من درْس العلوم والرياضيات.

(من أعمال مهنا الدرة)
(من أعمال مهنا الدرة)

"لا أتذكر يوماً لم أرسم فيه"، يقول الدرة في مقابلة تلفزيونية سابقة، وهو الذي رسَم الوجه الأول في حياته قبل أن يدخل المدرسة، وتعلّم أساسيات الفن باكراً على يد الرسام والضابط الروسي جورج ألييف (1887 – 1973) الذي عاش فترة طويلة في الأردن وفلسطين ودرّس العديد من الطلبة آنذاك وأصبح بعضهم فنانين في وقت لاحق، ويروي أن الكاتب والسياسي قدري طوقان (1910 – 1971) استطاع إقناع والده أن يدرس الفن، وساعده في الذهاب إلى إيطاليا للدراسة هناك، حيث تخرّج من "أكاديمية الفنون الجميلة" في روما عام 1955.

انجذب الفنان إلى العمارة القديمة والأعمال الفنية المنتشرة في شوارع المدن الإيطالية، وظلّ كعادته ينفر من الضبط والانتظام اللذين تفرضهما المؤسسة التعليمية، والأقل اهتماماً بالقواعد والمعايير الأكاديمية، وعاد منها إلى بلاده ليعمل في "مطار ماركا" في فترة لم يوفّر فيها الفن دخلاً لمبدعيه، ثم يبدأ عمله في دائرة الثقافة والفنون ومنها انتقل إلى السلك الدبلوماسي الأردني في عواصم عدّة منها روما والقاهرة وتونس وموسكو، وفي الأخيرة عيّن سفيراً لـ"جامعة الدول العربية" عام 2001.

(من أعمال مهنا الدرة)
(من أعمال مهنا الدرة)

تظل مساهمة الدرة مهمّة في إنشاء مؤسسة تعنى بالفنون، مؤمناً أن لا سبيل للتحديث من دونه، حيث شارك مع الفنانيْن رفيق اللحام وعلي الغول في تأسيس "رابطة الفنانين التشكيليين" عام 1977، كما تولى مسؤولية "دائرة الثقافة والفنون" عند إنشائها علم 1972، قبل أن تتحوّل إلى وزارة للثقافة، وساهم في تأسيس "معهد تدريب للفنون" تابع للوزارة الذي كان له دوره الكبير في تخريج فنانين في وقت لم يكن يدرّس فيه الفن في الجامعات الأردنية.

طفولة الدرّة الموزّعة بين عمّان والكرك مثّلت فضاءات أساسية في لوحته، ويصف ذلك بقوله "اتخذت السّيل (سيل عمّان الذي جفّ منذ عقود) صديقاً لي، وقد لعب دوراً مركزيّاً في المراحل الأولى من حياتي ولغاية الآن؛ فما زلت أتذكّـر شفافية المكان، والأمواج الضّعيفة التي تتراقص كخيوط الفضّة، بانعكاساتها المختلفة، إذا ما سقط الضّوء عليها".

(من أعمال مهنا الدرة)
(من أعمال مهنا الدرة)

كما اتكأ على عناصر أساسية ظلّت حاضرة في مراحل تجربته المختلفة، بدءاً من الزخرفة العربية الإسلامية التي وظّفها على نحو ينزع عنها سكونها نحو إيقاعية حركية داخل العمل، كما نجح في بلورة ذاكرة بصرية للمكان والزمان الأردنيين من خلال ما رسمه من أبنية عمّان وجبالها والتي غلب عليها اللون الأزرق واشتقاقاته، وكذلك الأعمال التي تجسّد البادية الأردنية حيث المساحات الشاسعة للأرض تعانق زرقة السماء، والطقوس الشعبية من رقص ودبكة ووجوه البدو والخيام.

قدّم الدرة أعمالاً أولى تحاكي الواقع تنتمي إلى التعبيرية، لتبدأ المرحلة التكعيبية التي تأمّل من خلالها اللون في بنية الشكل الهندسي، وانتهى منها إلى التجريد الذي هيمنت عليه الطبيعة موضوعاً رئيساً ضمن مناخات صوفية تبحث في العلاقة بين الكائن ومحيطه.

تناول الفنان أيضاً مجموعة رسوم بالحبر الأسود في السبعينيات والثمانينيات اهتم فيها بالرقص التقليدي عند الشركس، ووقّع الجسدُ حضوره الخاص في أعماله عبر بحثه عن ثنائي المرئي واللامرئي في التعبير عنه حيث الرغبة ونفيها، والضوء والعتمة وكأنهما يحيلان إلى اللذة وكبتها في آن. 

يستعير الدرّة مقولة الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس في رواية "زوربا"، بأن "الإنسان يحتاج قليلاً من الجنون حتى يصبح إنساناً كاملاً"، كما يوضّح في مقابلة سابقة. لم يتخلّ الدرة عن جنونه حتى آخر لحظة، لقد عاش نفسْه حتى آخر نفَس.
 

المساهمون