غزّة، الغرنيكا الجديدة

05 نوفمبر 2023
امرأة وسط أنقاض بعد غارات إسرائيلية على حي الزهراء في غزّة، 19 تشرين الأول/أكتوبر (Getty)
+ الخط -

"الشاعر المسجون في رام الله" بهذه العبارة وصف الكاتب المغربي اليهودي إدمون المالح الشاعر الفلسطيني محمود درويش في تقديم الترجمة الإسبانية لكتاب "ذاكرة للنسيان"؛ هذا المونولوغ الطويل الذي يعبّر فيه بقالب تأمّلاتٍ متقطّعة عن وقائع دقيقة لحصار آخر لا رحمة فيه. إنه حصار بيروت من قبل الاحتلال الإسرائيلي والكتائب اللبنانية اليمينية المتطرّفة في صيف 1982.

منذ بداية هذا القرن الحادي والعشرين المشؤوم، استمرت السيطرة الإسرائيلية على الطرق والمساحات الفلسطينية، وازدادت المستوطنات غير القانونية للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية، وارتفع جدار سميك من الإسمنت يمنع حرية حركة الشعب الفلسطيني. هكذا اندلعت الانتفاضة الثانية، الانتفاضة الفلسطينية الشعبية، خاصة بين الشباب الذين يواجهون المحتلّ عراة الصدور، بالعصي والحجارة والمقاليع والزجاجات الحارقة التي يرمونها على الجنود والشرطة الإسرائيلية. وعندما تشكّلت مجموعات مقاومة وانضمت إلى المحتجين، في مواجهة رد الفعل القمعي من قِبَل الكيان الصهيوني، قرّرت تل أبيب، كما هي الحال دائماً، استخدام كامل قوّة آلتها العسكرية، وفرضت حصاراً على رام الله خلال شتاء 2001 - 2002.

مدافع الدبابات والمروحيات القاذفة تطلق نيران الموت على السكان المحاصرين. محمود درويش، المحاصر كمثل ثلاثة مليون مواطن، يكتب قصيدة طويلة في أيام قليلة من كانون الثاني/ يناير 2002، بعنوان "حالة الحصار". تحضر في القصيدة ظلال الموتى، شظايا القذائف المميتة (يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ بمنظار دبّابةٍ). يحضر الخراب والعجز عن مواجهة العدوان الهمجي. لكن درويش يأخذ هذا الواقع القاسي في حوار على عدة مستويات، ومع شخوص متعددة: القتلة والحراس، نقاد الأدب والقرّاء؛ ويتجاوز به هذه الكارثة الشخصية والجماعية مستخدماً أحد رموزه المفضلة، حصار طروادة.

حوّل قصف الكياني الإسرائيلي قطاع غزّة إلى غرنيكا جديدة

هكذا يبحث الشاعر في سجلات صوته عن الاستعارة التي يمكن أن تستحضر لعنة الحصار وفناء الحاضر، الظلمَ والنهب المستمرين، ويبدو أنه يجدها في الصباح الذي سوف يعقب يوم الحصار، حين: (تمضي فتاة إلى حبها/ بالقميص المزركش/ والبنطلون الرمادي/ شفافة المعنويات كالمشمشيات في شهر آذار: هذا النهار لنا كله كلّه/ يا حبيبي، فلا تتأخّر كثيراً/ لئلا يحط غراب على كتفي...).

في الطرف الغربي من العالم العربي، في عام 2002، ينشر الشاعر المغربي محمد بنيس ديواناً شعرياً جديداً بعنوان "يقظة الصمت"، وفيه تكتسب الصور المتواصلة والمشاعر الشعرية جسداً وحضوراً. من بين قصائد الكتاب، تبرز قصيدة طويلة ومعقّدة مخصصة لغزة، حيث يمكننا أن نقرأ: (غزّة 14. 5. 2018. قتْلَى. أرضٌ بدمَاءٍ كثيرةٍ. غزّة).

يبدو أن بنيس يركّز على القصف الإسرائيلي الإجرامي والواسع النطاق في الأعوام 2006 و2009 و2012 و2014 و2018 و2021، وما تسبّبه من قتل، غالبيته العظمى من السكان المدنيين، بما في ذلك الأطفال. هذا القصف الذي حوّل المدينة وقطاع غزة إلى غرنيكا جديدة، بدعم صريح من واشنطن وسلبية الاتحاد الأوروبي التابع لها. ولا يزال هذا القصف مستمراً، ولا تزال أبيات بنيس تشير إلى الإبادة الجماعية التي لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكبها بحق المدينين، وآخرها ما يحدث الآن في خريف عام 2023 في غزة. يقول: (قتْلَى/ هلْ تقْدرُ أن تجْلسَ قُربَ القتْلَى/ وترَى دمَهمْ مسفُوحاً/ أيّاماً/ فيها الأجْدادُ أمامَ الأحفادْ؟).

* مترجم وأكاديمي إسباني متخصّص بالأدب العربي

** ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلوني

 

المساهمون