غابرييل غارثيا ماركيز.. غابة اختفى فيها الصحافي

شوقي بن حسن
شوقي بن حسن
صحافي وكاتب تونسي. مساعد سكرتير تحرير في موقع "العربي الجديد".
06 مارس 2021
+ الخط -

في 1981، بدأ الباحث الفرنسي المتخصّص في تاريخ الأدب المكتوب بالإسبانية، جاك جلبير، في جمع "المنجز الصحافي" لـ غابرييل غارثيا ماركيز. كان ذلك قبل سنة من تتويج صاحب "خريف البطريق" بجائزة "نوبل للأدب" التي ستجعل منه أحد أشهر روائيي العالم، وربما أشهرهم على الإطلاق، ليبدأ الجميع في نسيان الوجه الصحافي لماركيز، ذلك الذي رافقه لعقود. 

كان جلبير قد جمع كل المقالات التي نُشرت بين عامي 1948 و1966، وقد أتت في ثلاث مجلّدات ضخمة (قرابة 1600 صفحة مجتمعة). يرى الباحث الفرنسي أن هذه الفترة هي "زمن الصحافة" في مسيرة ماركيز، أو بتعبير أكثر دقة هي مرحلة كانت فيها الصحافة مجال الاهتمام والانهماك الأساسي لماركيز. كان يرى نفسه كصحافي يقدّم محاولات في الأدب.

في 1967، أصدر ماركيز "مئة عام من العزلة"، وكي يسلّم مخطوطها في الموعد المقرّر خاض عزلة استمرّت 18 شهراً، مكرّساً كل وقته للكتابة الإبداعية. يعتبر جلبير أن هذه العزلة هي لحظة القطيعة. يفعل ذلك من جعل من الكتابة الروائية هاجسه الأوّل، وبالتالي ستصبح الصحافة في الصف الثاني من الانشغالات، حتى لو كانت هي مصدر الرزق الأساسي.
قد يوافق رأيَ جلبير كثيرون وهو يحلّل أولويات ماركيز، لكن لم يوافقه كثيرون حين أراد إيقاف المشروع عند زمن ما قبل "مئة عام من العزلة". لعلّ الناشرين - ومجمل منظومة صناعة الكتاب - أوّل من تصدّى لهذا الطرح فبعد "نوبل"، أصبح أي شيء خَرج أو يخرج من قلم ماركيز مثل منجم ذهب جرى اكتشافه في أرض أميركا اللاتينية.

أخفى انتماءُ أدبه إلى الواقعية السحرية علاقته بالصحافة

تواصل جمع "المنجز الصحافي" لـ ماركيز حتى 1995. جرى استكمال المشروع من النقطة التي توقّف عندها جلبير، ومن ثمّ صار يتابع كل ما يَنشره ماركيز في جرائد العالم، وقد زاد الطلب على آرائه في كل شؤون الحياة. كما ضمّت المجموعة كتاباته السِيَرية التي ظهرت في عمل مستقل لاحقاً بعنوان "عشتُ لأروي". الحصيلة: تسعة مجلّدات كبيرة!

ما لم نرَ هذه المدوّنة الضخمة في سلسلة كتب تملأ وحدها رفاً في مكتبة لن نعرف مكانة الصحافة في مشوار ماركيز، ستكون - مثلما ذهب جاك جلبير في بداية الثمانينيات - مجرّد مرحلة تمهيدية قبل المغامرة الأكبر؛ الدخول في غابة التخييل. على المستوى الكمّي، تظهر مدوّنة الصحافة أضخم من مدوّنة الأدب، وهذه الضخامة تشير إلى أن الكتابة الصحافية مشروع حياة. مع ماركيز، نفهم أنه ليس بالضرورة أن يكون للمرء مشروع حياة وحيد.

المنجز الصحفي - ماركيز

ما الذي جعل ماركيز يكتب كل ذلك "المنجز الصحافي"، وقد بات في غنى عنه بعد أن وضعته "ليس للكولونيل من يكاتبه" في موقع أماميّ من مشهد الأدب اللاتينو-أميركي منذ 1961، ثم ضمنت له "مئة عام من العزلة" حيازة مكان مريح في "بانثيون" الأدب العالمي وهو في الأربعين من عمره؟

يبدو أن ماركيز قد فهم أن أدبه يتغذّى من الصحافة بما تتيحه من احتكاك يوميّ بالعالم يشحذ انتباهه - باستمرار - إلى تفاصيل لن يراها العابرون. من الوجيه أن نشير إلى أن الكتابة الصحافية عند الروائي الكولومبي تحقّق فاعليتها بالتحرّك المتواصل ضمن طيف واسع من الأجناس الصحافية؛ من مقال الرأي إلى الريبورتاج، مروراً بالحوارات وعروض الكتب ومتابعة الحياة السياسية والثقافية. حتى صياغة أخبار من بضعة سطور كان تمريناً مسلّياً.

منذ أن دخلها صُدفةً عام 1948 - بعد تخليه عن دراسة القانون بسبب التقلبات السياسية في بلاده - لم يعد ماركيز يفكّر في الانفصال عن الصحافة، ولا حتى في أخذ مسافة ثابتة منها. لم يكن يريد أن يخسر ذلك التنشيط المتجدّد لخلايا دماغه. تلك الفسحة الدائمة من الاهتمامات والاشتباكات، وارتفاع منسوب الأدرينالين في الدم من حين إلى آخر. 

فتح هامشاً من الحريات بالتحرّك بين التخييل والواقع

ما يُخفي حبل السُرّة الذي لا ينقطع بين حقليْ الصحافة والأدب هو انتماء الأخير إلى "الواقعية السحرية". أية علاقة يمكن أن نربطها بين الصحافة بحرصها على ملامسة الواقع وبين عوالم تبدو مختلقة تماماً، بأسماء شخصياتها وأماكنها وأحداثها. لم نر صحافياً واحداً في "ماكوندو"، وكيف لنا أن نراه وليس هناك واقع أصلاً؟ 

هل يمكن بذلك أن نجزم بأن "مئة عام من العزلة" - ونصوص مثلها اتخذت من ماكوندو إطاراً مكانياً تجري فيه أحداثها - في قطيعة تامة مع الصحافة. ربّما لم تحضر الصحافة، لكن ماركيز أحضر الكثير من شخصيته الصحافية. لكي نلمس ذلك، علينا أن نفارق الظاهر من العوالم العجائبية التي تقترحها رواياته. 

الأثر الصحافي ثاو في تربة التخييل. مثلاً، وراء الحكايات المتشعّبة في "مئة عام من العزلة" هناك بناء دقيق للخلفية التاريخية. شخصيات الكولونيل المتناثرة في كثير من أعماله لها مرجعيّتها الواقعية؛ الحرب الأهلية في كولومبيا. يمكن في أحيان كثيرة أن نتوقّف عن القراءة ونتثبّت من معلومات يذكرها ماركيز مثل تاريخ بناء سكك الحديد أو إحصائيات الضحايا فنجد أنها دقيقة، كأنه يتوجّه إلى قارئ الصحافة الذي يربطه به عقد معنوي بأن يكون أميناً للواقع.

أما الحضور الأطغى للصحافة في أدب ماركيز فكان في "حكاية غريق" (1970). حضور لن نتفطّن له من دون مقدّمة كتبها ماركيز وأكّد أن عمله هذا إنما هو "إعادة بناء صحافي" لحكاية بحّار نجا من الموت بأعجوبة. بالتالي ليس العمل رواية أصلاً؛ إنه حوار صحافي نُشر متسلسلاً عم 1955. رغم ذلك، فجميع عناصر الرواية حاضرة فيه. لقد كانت "حكاية غريق" في نقطة الوسط بالضبط بين الأدب والصحافة.

عنوَن ماركيز ذلك التقديم بـ"حكاية الحكاية"، وهنا يمكن أن نكتشف رؤيته للعلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الأدب والصحافة. إذا كانت الصحافة هي الشاشة الكبرى التي يُفترض أن تظهر فيها الأعمال الأدبية كي تكون مرئية، فإن الأدب يمكن أن يلعب نفس الدور أحياناً. فمع التراكم الذي لا يتوقّف، يَنردم كل شيء تحت طبقات من الأحداث الراهنة. يمكن للأدب هنا أن يلتقط ما هو جدير بالبقاء طافياً على سطح الذاكرة.

ماركيز

صحيح أن حوارات ماركيز مع لويس فيلاسكو، الناجي الوحيد من غرق باخرة كولومبية، أحدثت ضجّة حين نُشرت، سيّما وأنها نَسفت رواية رسمية تفسّر ما حدث، مما أدّى إلى التضييق على الكاتب والجريدة التي يعمل فيها. إلا أن مرور الزمن سرعان ما طمس الدروس التي يودّ ماركيز أن يؤشّر عليها، لذا قرّر أن يعيد نشرها ومنحها فرصة الوقوف تحت إضاءة عالم الأدب.

هكذا، كان تحرُّك ماركيز بين الحقلين يفتح له هامشاً من الحريات. بات يستطيع أن يشاكس أسطورة "الأب المحرّر" سيمون بوليفار كما فعل في "الجنرال في المتاهة" (1989)، وقبل ذلك كان ممكناً له أن يكتب "خريف البطريق" في 1975 مجمّعاً كل طغاة القارة الأميركية في كائن واحد. هل كان ممكناً أن يرسم ماركيز ذلك البورتريه دون اشتباك ممتدّ في الزمن مع شخصيات سياسية ضمن ما تتيحه له الصحافة. هل سيلتقط ما التقط لو أنه كان يستهلك الأخبار اليومية عن هذا الديكتاتور أو ذلك مثل جميع المواطنين؟ هذه التفاصيل غير المرئية على صفحات رواياته هي ما نقله من الصحافة إلى الأدب.

نقل ماركيز أيضاً حسّ التكثيف، وصرامة البناء من الصحافة إلى بعض أعماله. يظهر ذلك في "قصة موت معلن" (1981)، وهي التي تأتي بحساسية مختلفة عن بقية أعماله وقد اعتُبرت أكثر رواياته انضباطاً. لم ينس كذلك أن ينقل العالم الداخلي للصحافي كما يمكن أن تضيئها شخصية أدبية. فعل ذلك في آخر رواياته "ذاكرة غانياتي الحزينات" (2004)، وهنا أقدم على لعبة عجيبة جديدة: استعاد هيكل رواية "الجميلات النائمات" لـ ياسوناري كواباتا، واخترع شخصية صحافي متقاعد ليلعب الدور الرئيسي. هل كانت صدفة أن يكون الصحافي آخر أبطاله؟

في مشواره الأدبي الطويل - ذلك الذي أخفى مشواره الصحافي الأطول - حافظ ماركيز على خيط ناظم غامض بين أعماله، رغم أنه اقترح قواعد لعبة جديدة مع كل عمل أدبي. ألا نجد سرّ هذه الموهبة في وفائه للصحافة، وهو الذي لم يكن يخفي أنه يعتبرها "المهنة الأجمل في العالم"؟

في بداية التسعينيات، وهو في أعلى قمم الأمجاد الأدبية، قال "غابو" لأحد أصدقائه: "أريد أن أفعل شيئاً للصحافيين الشباب". بعد بضعة أشهر أعلن عن إنشاء "مدرسة الصحافة الجديدة" في مدينة كارتاخينا دي إندياس. حتى عائدات الأدب، ذهب جزء منها في النهاية إلى الصحافة.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون