في المخيال الأدبي، لا يزال المقهى محتفظاً بسحره. عربياً، هناك صور جاهزة نستحضرها سريعاً؛ نجيب محفوظ يطالع جرائده ويلتقط حكاياته، أو جدل المثقّفين في شارع الحمرا البيروتي، وبعض من رجع صدى حلقات المثقفين في بغداد أو تونس. أو ربما تعبر ذاكرتنا فيروز وهي تحدّثنا عن "قهوة ع المفرق".
ظلّت هذه الصورة متماسكة، ولعلّنا نحن من يريدها أن تظل كذلك. فالمقهى - كما هو في الواقع - يبتعد أكثر فأكثر عن ذلك الفضاء الذي يمكن أن تنشرح فيه، فتتدفّق أفكارك وتجد الفرصة كي تجادلها.
انظر إلى ذلك التشابه التصميمي الذي يسم المقاهي أينما ولّيتَ وجهك. يختنق كل ما هو أصليّ حولك. تتزيّن الكثير من المقاهي بالكتب، ولكن كزينة باهتة. الإضاءة غير مناسبة في الغالب، تستدرجك كي تغرق في هاتفك. النادل غير متعاون، بعضهم عدوانيون تجاه من يأتون ليقضوا وقتاً طويلاً. تباعدٌ مزاجي يفصلك عن بقية الحاضرين.
أما الضجيج - حتى الضجيج - فلم يعد من النوع الذي يساعدك في الانهماك في ما بين يديك. رنات التلفون تتطاير، وصراخ المعلّقين الرياضيين يمكن أن ينقضّ عليك ويقحمك في مباراة شرسة لا تعنيك، وفي أحسن الأحوال ستجد موسيقى، ولكن على مقاس ذائقة كيتش.
من الطبيعي بعد ذلك أن تتمسّك بصورة مثالية للمقهى، فلم يعد أمامك إلا أن تتخيّلها لتحقّق بعض اندماج في المكان ولو متكئاً على الوهم.