مع بداية الحرب على غزّة، انتشرت فيديوهات يُظهر بعضُها جنوداً للاحتلال الإسرائيلي وهُم يتقدّمون بطلبات زواج من صديقاتهم فوق أنقاض غزّة، أو جندياً يفجّر مبنى احتفالاً بعيد ميلاد ابنته، أو آخر يشارك متابعيه روتين العناية ببشرته أو مجنّدات يرقصن عبر تيك توك.. وربّما ظنّ هؤلاء أنهم، بسلوكهم هذا، يُقنعون العالم الغربي بأنّهم جزء منه، وأنّهم يقاتلون ويفجّرون المدن باسمه ولتنتصر ثقافته.
هكذا يسوّق الجيش المحتلّ نفسه، ويؤكّد بهذا سطحية كلّ من يؤيّده ويقف وراءه، وهشاشة المنظومة الأخلاقية التي كان من المفترض أن ترضخ لها مؤسّسات ودول العالم جميعها. إنّها أخلاقية صُورية، تعتمد على "حداثة" تلغي ما قبلها، ولا تهتمّ في حاضرها إلّا بالشكل الخارجي، حتى لو كان الباطن قتلاً ودماراً وتشريداً.
ومع استمرار الحرب وانكشاف فداحة الإبادة الجماعية الموثّقة، يبدو أنّ هذه الطريقة في محاولة تبرير العدوان وحمل عدد كبير من الناس حول العالم للسكوت والتجاهل، لا تزال فعّالة عند عدد من العنصريّين والسطحيّين الذي يُصرّون على رؤية العالم بثنائية سخيفة، وجعل هذه القشور أساساً لمنظومتهم الأخلاقية.
نقاشات سطحية تحاول لفت الأنظار عن قضية الاستعمار
فبعد ظهور عدد من الفنّانين - ومن بينهم الفنّانة سيرفان ديلكي - على مسرح "مهرجان برلين السينمائي" مؤخّراً، وهُم متوشّحون بالكوفية الفلسطينية، نشر كلاوس ستونزر، الذي يعرّف نفسه بالكاتب والصحافي، على حسابه في موقع "إكس" (توتير سابقاً)، صورةً للفنّانة، معلّقاً على ملابسها: "وشاح فلسطين وحاملة صدر: في برلين يجري التصفيق لها، في غزّة سيتمّ رجمُها. ما هذا إذن: غباء؟ جهل؟ أم فنّ؟"، ليُعلّق الناشط الألماني من أصول كردية حسن: "لا يا كلاوس، رجمُها كان سابقاً. اليوم تستعمل إسرائيل أساليب أُخرى، على سبيل المثال الفوسفور الأبيض، لقتل عدد أكبر من المدنيّين".
وقد نشر الصور نفسها مدوّن آخر يُدعى سيفيرين تاتارتشيك وعلّق عليها: "ماذا يُمكن أن يحدث إذا مشت في شوارع غزّة بهذا اللباس؟". وقد جاء الرد بعشرات التعليقات التي تخبره أنّها قد تتعرّض لصاروخ إسرائيلي كحال عشرات الآلاف ممّن يمشون في شوارع غزّة.
لم يخفَ أيضاً على المعلّقين، والذين تداولوا آراء هذين الشخصين، أنّ تعليقهما - مع ما يحمله من نظرة ذكورية واقتحام للخصوصية - يتضمّن تبريراً واضحاً للعدوان الإسرائيلي المستمرّ على أهل غزّة، ولكلّ أشكال الاضطهاد والعنف والتهجير الذي يمارسه ضدّ الفلسطينيّين.
وبينما يظنّ الجندي الذي يشارك "روتينه اليومي" للعناية بالبشرة أنّه بهذا يحجز مكاناً في الغرب، بغضّ النظر عن كونه يشارك في تصفية أكثر من مليوني إنسان من الوجود، لا يزال هناك عدد من المدوّنين والكتّاب الغربيّين يُبرّرون اتهامهم للفلسطينيّين وهجومهم عليهم وسخريتهم من معاناتهم بأنّ هؤلاء الفلسطينيّين ينتمون إلى ثقافة مختلفة، هي بالضرورة ثقافة أدنى وأحط، لا بأس لو اختفت وأصحابُها عن الأرض.
لا تصدر تصرّفات جنود الاحتلال بشكل عبثي، فإمّا هي جزء من حملات مخطّط لها، أو أنّها تنطلق من الدوافع والخيالات الداخلية التي تأسّس عليها مجتمع كامل من العنصريّين، وكذلك تعليقات المدوّنين الغربيّين، التي تأخذ النقاش إلى مناطق بلا معنى ولا أهمية في سياق الحرب الدائرة.
يريد الاحتلال لفت النظر إلى الفرق الشاسع في الرفاهية بينه وبين الشعب الفلسطيني في غزّة، ومن جهة أُخرى يريد أن يُبرّر بهذه الرفاهية للعالم السطحي الواقف خلفه ما يفعله بالشعب الفلسطيني. ببساطة يقول: "نحن نشبهكم وهؤلاء أغيار، فادعمونا ولا تعبأوا بهم".
ولم يكن رهان الجنود المجرمين إذن في غير محلّه، إذ يبدو أنّ صور الجنديات الراقصات لا تزال ناجحة لحمل طبقة واسعة من الغربيّين على تحديد الجانب المعتدي والجانب البريء، في تحديد "النور والظلام" بتعبير المجرم نتنياهو. ويبدو أنّ صورة الفنّانة "المتحرّرة" قد سبّبت اضطراباً عند هذه الذهنية الغربية لأنّها تخالف الصورة النمطية عن المرأة، ليس فقط الفلسطينية، بل التي يمكن أن تتضامن مع فلسطين، فلم تحتمل هذه الذهنية أن يدافع إنسان عن إنسان آخر لا يشاركه في طريقة اللباس وطراز العيش، وأنّ هناك معنى أشمل وأعمق للأخلاق والإنسانية.
غير أنّ الشباب الفلسطيني، والمتضامنين معهم، عرفوا اليوم كيف يديرون المشهد، فلم ينجرّوا وراء السطحية التي لا يتواصل الاحتلال مع العالم إلّا من خلالها، واستفادوا من وسائل التواصل الاجتماعي ووجودهم في البلدان الغربية ليقدّموا السردية الفلسطينية كما يجب أن تُقدَّم، ويضعوا الغرب ومنظومته الأخلاقية أمام المحاكمة.
وهكذا، بدأ انزياح الفكر المثخن بأدبيات "نقد الذات" وإعلاء قيم الغرب والولع بتقليد "الغالبين" مع ظهور جيل جديد يفهم العالم جيّداً، رغم أنه (وربمّا لأنّه) عانى ويعاني من التهميش والعنصرية وقلّة الفرص وانقطاع الصلة والتواصل مع من رحل إلى بلادهم أو نشأ فيها، لمجرّد أنّ له نمط حياة مختلفاً.
إنّه جيل لا يخلط مفهوم الحرّية الشخصية بحرّية الوجود والتمسّك بالأرض والهوية، جيلٌ يعلم أنّ تحصيل الحقوق الوطنية مقدَّم على الاختلافات في أبعاد الحرّية الفردية ونمط العيش، ويعلم أنّ أَولى الأولويات اليوم هو حماية الإنسان بوصفه إنساناً، وإعطاؤه حقوقه في الأمن والاستقرار والتعلّم، ثمّ مناقشة وبحث كلّ المسائل الفكرية والدينية معه، وليس العكس.
يعلم هذا الجيل أنّ الأخلاق لها أساس مختلف عن هذه الصور السطحية، وأنّ كل هذه المسميات هي اختلافات ثقافية لا تصلح أساساً أخلاقياً لاحترام إنسان أو شعب ونفي أو إثبات حقّه في العيش ورغبته في ممارسة هذه الثقافة والتشبّع والاستمتاع بها.
حين وعى هذا الجيل هذه القواعد نقل الجدلية إلى مكانها الصحيح، بعيداً عن التسطيح والتفاهة وقريباً من الجوهر، راح يناقش العالم عن معنى الاستعمار وتبعاته، عن الاستيلاء الحضاري، وأغلق الباب أمام التعليقات التي تحاول تشتيت انتباهه أو إضعاف ثقته بنفسه.
* كاتب من فلسطين مقيم في ألمانيا