عن البلد "الإنساني جدّاً"

25 ديسمبر 2023
الشرطة تراقب مسيرة تضامنية مع فلسطين في برلين، 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

لِمَ تتعامل ألمانيا مع الذين يحملون جوازات سفرها، والذين تمكّنوا من مغادرة القطاع، بعد كلّ ذلك الهول، على أنهم "متعاطفون محتمَلون مع حماس"، ويجري التحقيق معهم، منذ دخول المطار، بناءً على ذلك؟ هل هؤلاء اللاجئون، الذين هربوا من الاحتلال الصهيوني، جاؤوا هنا إلى برلين كي يروه مرّةً أُخرى، في نسَخ متكرّرة؟

هل نسي محقّقو الفيرماخت الأمني أنّ هؤلاء فلسطينيون جدّاً، ولم يتركوا غزّة الحبيبة إلّا عندما أجبرهم الجفاف الناتج عن نقص السعرات الحرارية على الهجرة؟ كم تحتاج فلسطين المظلومة، كي يصلكم بعض ألمها وتفهموه دون مشقّات والتواءات؟ خمسة ملايين محام؟ معقول يا بلد الفلاسفة عديمي الخُلق الحسَن، والخِلقة الحسنى؟

هل تحاولون، من خلال التحقيق معهم وقتلهم مرّتين، عرقلةَ الحلّ "الديمقراطي البرجوازي"، وهو من ركبَ أمانيهم ووعدهم بمستقبل أفضل بين ظهرانيكم وسِحَنكم المتجهّمة؟

هربوا من الاحتلال الصهيوني ليروه في برلين مرّة أُخرى

(سبحان الله يا أخي اللاجئ الحاصل على جنسية: الألمان غير شِكِل عن الإيبيريّين من إسبانٍ وبرتغاليين. الألمان لهم هذه المزيّة: عِرقهم آري جدّاً، وحتى أقفيتهم متجهّمة، مثل وجوههم. وهُم حين يَقبلون ورقك، فلكي تكون ترساً في آلة العمل، ثم تكتشف بعد فترة، تطول أو تقصر (حسب معراج الوعي)، أنّهم لم يفعلوا لك شيئاً بابتسامات أوّل اللجوء المزجّاة (تلك التي كانت تترى كزّخ المطر)، سوى أن نصبوا لك الفخاخ، وحضرتك لأنّك مُضطّر، وقعت فيها فوراً).

ثم... كيف تدافع بنت الملياردير المتفجّرة، على شاطئ نهر الأودر أو الراين أو الدانوب، عن الفقراء الأقل حظّاً، على الرغم من كونها مليونيرة وهي شابّة، ووارثة إذ تكتهل؟  كيف لها أن تُحبّ الكلاسيكيات التي تُركت، وهي بالذات من أحيت النجوم والأزواج الناجحين، في مراجعة لا تنسى، على تبّة من شاهق الخيال؟ 

معقول هالحكي يا قاطرة أوروبا الفارغة من الاستبصار؟ معقول هالحكي وأنت تبربرين عن مستقبل الخدمات المصرفية، من التطبيقات إلى السحابة والذكاء الاصطناعي التوليدي، بينما لا ترين في الأثناء أنّ جارَكِ جنوبَ وشرقَ المتوسّط مش لاقي اللضا؟ معقول أن تدفعيهم لكرهك، ولهُم بين ظهرانيك كادحون مُجّدون، رفضوا أن يكونوا مُعاليكِ، واليوم، يضطرّ المثقَّف منهم، أن يكون متعالياً عليك، بحُكم انحدارك إلى الدرك، كما بحُكم نار الشعْر المقدسة فيه، وما ترفده من وعي شقي بكِ وعليك؟

لمَ فشلتِ في إنشاء أغنية جميلة عن الصداقة بينهم؟ لمَ في برهة فاصلة، تمّت استقالتك الكبرى من الأخلاق، ولماذا لم يعد أحد من مثقّفيك يجرؤ على ممارسة وظيفته النقديّة بعد الآن؟ أهو نفس زيتك القديم المستعمَل، مع دأبك على إعادة تدويره وتوزيعه على ابن البلد الأصلي، وضيف البلد الطارئ؟ ألا تفكّرين في مخاطر شهرتك كبلدٍ مستقرّ و"إنساني جدّاً" وواعد؟

لِمَ حبستِ زوجها، ثم التفت المحقّق الضخم، ليوبّخ ابنة عمّي الخارجة من الجحيم، وبعد ساعتين ونصف، بربر لها بهذه الجلافة المبذولة والمبتذلة: "عليكِ أن تعيشي في الحاضر، لأنّ كلّ شيء قد تحطّم وراء ظهرك، وما تحطّم فقد دخلَ التاريخ". دخَلَ التاريخ أيها الخارج عن الفهم المناسب؟

ألا تحتاج الأمّ الشابّة إلى ترميم الروح بعد انكسارها، أم أنّها ستظلّ مثل لوحة "داود قاهر جالوت"، معلَّقةً، مرّةً أُخرى، في غرف متحف البرادو؟

شامتٌ أنت "أَخَتْ مال" بالأُخْت اللاجئة مقصوصة الجناح؟ غير قادر على تدبيج عزاء خفيف، ولو بروح الدعابة والحموضة وبعض الحزن، قبالة مجموعة من "الثقلاء القدامى والجدد"، الذين لا يتناسبون تماماً مع عالم اليوم الألماني جدّاً؟

ألمانيا، ألمانيا: استيقظي. استيقظي من موقفك المُخزي! لماذا تتعاملين مع لاجئيكِ كغرباء تزلق أرجلُهم على سلالم حكومة صالحة ينتخبها المجتمع الصالح؟ حاولي دمج الواقع بالخيال في قصّة كوميدية تتناول تجارب مؤلّفة بأقلام موتى من زمنٍ غابر؟

ألا إنّ العالم يتغيّر، لكن الأخلاق تبقى. أمّا الكتب والأفلام ومسلسلات عيد الميلاد، فتتغيّر قليلاً (على الأقل تلك التي تُباع بكميات كبيرة)، عبرَ رحلة تجريب، من الماضي إلى الحاضر، باستخدام التأمّل من خلل الظلام والألوان؟

هل أنت ما أرى: مجرّد فيلم يمتلك ساعة الأرق، قصّة طبخ عاطفي، يتمّ فيها تخمير شاعرية الخريف بين الأطباق الأكثر تطوّراً، فقط لكي تحضري حفل توزيع جوائز الأوسكار؟


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا 
 

موقف
التحديثات الحية

 

المساهمون