علي باي العباسي (3 - 3): جاسوسٌ إسباني يصف أحوال الداخل السوري عام 1807

20 اغسطس 2022
مشهد لدمشق مطالع القرن التاسع عشر في نقش لـ بييترو باربوني، 1840 (Getty)
+ الخط -

نتابع في هذا المقال الجزء الثالث والأخير من رحلة الجاسوس الإسباني دومينيغو فرانثيسكو باديا، المتنكّر بشخصية علي باي العباسي في سورية، ونعرضها بالاعتماد على ترجمة الأستاذ حليم كنعان غير المنشورة، والتي تقدّم بها لنيل درجة الأستاذية في علوم التاريخ، من "الجامعة الأميركية في بيروت"، عام 1952. وفي هذا الجزء يواصل وصفَه لأحوال مدينة دمشق عام 1807، ويتناول مسائل تتعلّق بالعادات والتقاليد الاجتماعية، ويُشير إلى سعة العيش التي يتمتّع بها الدمشقيون وأهلُ الغوطة، ويتساءل إن كان الحال كما هو عليه من الفساد والضرائب الباهظة وهم في سعة من العيش، فكيف لو كانت لديهم حكومةٌ عادلة. ويشير إلى ملاحظة مهمّة، وهي أن الدمشقيين كانوا ينتظرون الوهابيين الذين كانوا يهدّدون بدخول دمشق في تلك الأوقات، في إشارة إلى توقهم للخلاص من حُكم العثمانيّين. وبعد ذلك يغادر إلى حمص وحماة، التي يصفها بشكل مسهب، قبل أن ينتقل إلى حلب التي لا يُوليها الاهتمام الكافي بسبب المرض الذي أقعده طوال مدّة الزيارة.


محاصيل دمشق

ويعدّد أهمّ محاصيل غوطة دمشق فيقول: "إنه القمح، والشعير، والقنّب، والعنب، والمشمش الذي يُصنع منه قمر الدين، والفستق وجميع أنواع الثمار". ويشير إلى أنّ "موسم الحرير قليل هنا، غير أنّه من النوع الممتاز، وما يحتاجونه علاوة لأنوالهم، يستوردونه من البلدان المجاورة، وكذلك القطن المستعمل فهو مستورَد بكامله لأنّه لا يُزرع منه شيء في دمشق. أمّا العسل فإنتاجه وافر، غير أنّ الأهلين لا يعرفون صنع الشمع. ويُستَورد السكّر من مصر وأوروبا، أمّا الأَرُزُّ فمن مصر بكامله".

ويلاحظ أن "خصب الأرض مستمرٌّ إلى درجة لا يذكرُ الأهالي معها أنّهم عرفوا سنةً من السنوات العِجاف، والفلاحون أو أهل القرى عموماً هم على شيءٍ من السّعة، رغماً عن الضرائب الهائلة التي تَجنيها الحكومة وغيرها من ألوف الاغتصابات، كأن يُجبَروا مثلاً على إيواء الجيوش وإطعامهم، وغيره. فإذا كانت هذه الطبقة من الأهلين غنيّة تحت هذه الأثقال، فكيف تكون حالتهم في عهد حكومة عادلة رحبة الصدر".

ويمتدح رحّالتنا جوّ دمشق وبرودة الماء، وتوفّر الثلج في محلّات المرطّبات، ويقول إنه كان يعتقد بوجود ذُباب في المدينة، ولكنّه دُهش من عدم وجوده وكذلك العقارب والأفاعي، فهي قليلة جداً وليست من النوع الخطير. ويسرد بشكلٍ مفصّل سلالات الخيول العربية الموجودة بدمشق، ولكنه يُخطئ بكتابة أسمائها، فيصبح من الصعب تخمين التسمية الصحيحة، باستثناء الصقلاوي والمعنقية والجلفة.


خليط من الأزياء

وحول لباس الرجال في دمشق يقول: "في دمشق خليطٌ من أزياء العرب والأتراك. والعباءة العربيّة العريضة الخطوط كثيرة الشيوع. أمّا القاووق أو الطاقية العالية، فللأتراك وحدهم، وقليلاً ما يستعمله العرب. ويغطّي هؤلاء رؤوسهم عادة بطاقيّات حمراء هائلة الحجم تتدلّى إلى الوراء، بما يزيد عن نصف القدم، وتخفي القذال والرّقبة، وبكُوفية من الشاش المخطَّط، أو من الحرير، دائرة حول الرأس تحت القسم المتدلّي من الطاقيّة، وهي من أزياء الرأس الغريبة المستهجَنة. ويلبسون نوعاً من القمصان (الجلابيب) البيضاء ذات القماش المخطّط بالأسود الرّفيع، وهي تشبه الجلباب المراكشي، إلّا أنّها مزيّنة من الوراء بتطاريز مختلفة الألوان".

أمّا أزياء النساء فيصفها بقوله: "تخرج النساء ملتفَّات من الرأس إلى القدم بطرحاتٍ بيضاءَ خشنة القطن، ويلبسن السراويل الفضفاضة. نساء الطبقة الراقية فَطِنات معتدلات للغاية. فيحافظن بلباقة ودقّة على رفعة مقامهنّ، غير أنّ الطبقات الدنيا يُغالين في رفع الكلفة. وجميعهنّ يغطّين وجوههنّ بحِجاب من الحرير الشفاف أصفر اللون عادةً مزيّن برسوم الأزهار. ويكسوهنّ الخمار الأبيض الذي يلطّفن به مظهر الأشباح السائرة، غير أنّ أكثرهنّ يرفعن الحجاب على الجباه؛ لإظهار وجوههنّ على نمط النساء الأفريقيات، فيرفعنه أو يدنينه كما يطيبُ لهنّ، وقد أتاحت لي هذه الحريّة إمكانيّة التحقّق من أنّ نساء دمشق بهيّات المنظر على العموم، وبعضهنّ جميلاتٌ حقاً. ولهنّ جميعاً رواء البشرة ونعومتها على لون جميل".


جمال الدمشقيين وصحّتهم

ويُضيف، بعد أن يهجو نساء شمالي أفريقيا ومصر والجزيرة العربية: "ترى بين النساء والأولاد بعضاً من ذوي الملامح الملائكيّة. ويبدو على الذكور البالغين مظهر الرجولة على لونٍ بديعٍ مع أحسن التناسُب والقوّة والملاحة. وبالاختصار فهُم شعبٌ يختلف تمامَ الاختلاف عن شعوب أفريقيا والجزيرة العربية. ما عدا أهل فاس الذين قليلاً ما يختلفون عنهم".

ويمتدح باديا، عالياً، الحالة الصحّية للدمشقيين حيث يقول: "يتمتّع الدمشقيّون عادةً بالعافية الممتازة، والنساء على الأخصّ قليلاً ما يَمرضن، وأعتقدُ أنّ هذا يرجع إلى البحبوحة العامّة، والسيرة المنتظمة، والأشغال المعتدلة، فضلاً عن عادة الحمّامات الدافئة. أمّا المرض البلدي الوحيد فهو نوع من الحمّى الثلاثيّة الخبيثة، وهو إذا لم يُستدرَك جيداً يتحوّل إلى نوع من الانسداد أو الاستسقاء أو الحمّى الرباعية. يعيش الدمشقيّون عادةً من السبعين إلى الثمانين، وبعضهم يبلغون المئة. ولا يدخل الطاعون إلى دمشق بسهولة. فلم يظهر فيها أكثر من أربع أو خمس مرّات في مدّة أربع وعشرين سنة، وكان في ظهوره خفيفاً. ولم يعد منذ عشر سنوات، وإذا دخل الطاعون إلى دمشق عن طريق البحر فهو أقلّ ما يكون شؤماً، ولا ينتج منه إلّا عدد قليل من الوفيّات، غير أنّه إذا ما دخل عن طريق حلب فهو كثيرُ الإيذاء، ويجرف معه عدداً كبيراً من الضحايا. ومع هذا فالأهالي لا يحتاطون كثيراً، وقد دُهشت كيف أنّهم نجَوا من هذا السّخط في الوقت الذي عاث خراباً في حلب. فكانت القوافل والمسافرون والحاجيات ترد وتصدر يوميّاً دون اتخاذ التدابير الوقائية، ورغماً عن ذلك فقد نجت دمشق من ذلك الوباء العتيد.

وهذا ما يبرهن أنّ الاتصال الفعلي وحدَه لا يكفي لإشاعة هذا الوباء، وأنّه لا بدّ من وجود خليط من الأسباب المهيّئة مثل القابلية الشخصية أو المحلّية".

الصورة
الشارع المستقيم - القسم الثقافي
الشارع المستقيم، دمشق، أواخر القرن التاسع عشر (Getty)

لا مكان للدجّالين

ومن الأمور اللّافتة التي يشير إليها باستغراب أنه التقى في دمشق بطبيبَين أوروبيَّين، وستة أطباء من أهل البلاد، وبعددٍ لا يُحصى من الدجّالين الأفّاكين ذكوراً وإناثاً، كما هي الحال في مختلف البلاد الإسلاميّة، ولكنه يقول مع ذلك: "وبما أنّ أهل البلاد من العمّال المُجتهدين، والتجّار النشطين، فلا مجال هُنا لثراء العابثين. ولذا تجد نفراً ضئيلاً من السحَرة وكاشفي البخت في دمشق. وإذا اتفق قدوم أحدهم فسرعان ما يتبيّن له استحالة جني الأرباح الطائلة".

ويذكر رحّالتنا وجود عشرين مدرسة كبرى للأولاد، وعدد كبير غيرها من المدارس الصغرى. وتعطى في خمس منها فروع الثقافة الرئيسية. غير أنّ المواضيع تنحصر في معرفة الدِّين، على نمط المدارس في باقي أنحاء تركيّا، وتشتمل على دروس في الشَّرع والفقه. وفضلاً عن هذا، كما يقول، هناك محاضرات وشروح عامّة تُعطى يومياً في الجامع الكبير، وفي غيره من الجوامع. ويلقي هذه الدروس نحو عشرين فقيهاً ممّن يتمتّعون بالاحترام؛ نظراً لخلقهم وعملهم. غير أنّه يمكن أن يقال إنّ هناك اثنين أو ثلاثة من هذا العدد ممّن تضلّعوا في اختصاصهم.

ويعود علي باي للحديث عن البحبوحة التي يعيشها الدمشقيون ويقول: "تتمتّع طبقات الشعب الدُنيا عادةً بسيولة الكفاءة، فلا ترى كثيراً من الفقراء بينهم، ويندر وجود المتسوّلين، وإن كان في الشوارع بعض العُمي، فهناك عدد لا يُحصَى ممّن يدّعون القداسة فيخطرون كالصّرعى والمجاذيب بقصد استجداء الإكرام العام. وتحتفل عامّة الشعب بأعراسهم وختانهم وجنازاتهم احتفالاً خالياً من مظاهر الأبّهة. أمّا الأغنياء فإنّهم لا يقيمون الاحتفالات في هذه المناسبات إلّا أنّ النّصارى أكثر من المسلمين احتفاء بحفلات أعراسهم".


انتظار الوهاببين

ومن الأشياء الصادمة بالنسبة له أنه "على الرغم من تقدّم المَدنيّة في هذه المدينة، ومع أنّ القسم الأكبر من الأهلين يعتمدون في عَيشهم على نسج الكتّان والحرير، والاتجار والاكتساء بهما، فإنّ قسماً كبيراً منهم كان يتمنّى قدوم الوهابيين، وهم يعلمون على كلّ حال أن أتباع هذا المذهب يعتبرون استعمال الحرير والتبغ وما شاكل مجلبة شرّ، وأنّ هؤلاء بالاستناد إلى مبادئهم الدينيّة سيضعون العراقيل القاهرة في طريق المصانع والتجارة".

ويشيرُ رحّالتنا إلى تهالُك تحصينات دمشق، ويقول إن حِمى دمشق الحقيقي في حدائقها، فهي تؤلّف غابةً من الأشجار، وفيها من السياج والجدران والخنادق ما يمتدّ مسافةً دائرية تزيد على سبعة فراسخ، وهي ليست بالسدّ البسيط أمام العدوّ المُسلم الذي ينوي مهاجمة المدينة، لافتاً إلى أن قبيلة عَنَِزَة التي تقطن شرقي دمشق، وتمتدّ حتى جوار بغداد، قد تأكّد له أنّ جميع هؤلاء الأعراب قد تبنّوا إصلاح عبد الوهاب.

ويختم حديثه عن دمشق بزيارة للصالحية والتي يقول إن فيها "للدمشقيين مقاصير البهجة، وهي على شيء من الاتّساع، وفيها سوقان عامّان كبيران، وعدد لا يُحصى من البيوت والحدائق المنتشرة في البلاد المجاورة، وهي قائمة في سفح الجبل شمالي دمشق. وهي فعلاً نقطة مبهِجة".


القلمون الشرقي

يغادر الرحّالة الإسباني دمشق يوم الأحد 29 آب/ أغسطس عند الرابعة بعد الظُّهر، متوجّهاً إلى حلب، فيمرّ على "خان القصير" ثم "خان القطيفة"، ثم "خان العروس" الواقع على بعد فرسخين شرقي قرية معلولا. وبعد ذلك يصل إلى النبك التي يقول إنها "بلدة حسنة الموقع قد تتّسع لألف عائلة، فيها عدد من الحدائق والمياه الممتازة".

وفي النبك سمع أن عرب العنزة أغاروا على الوهابيين وانتزعوا منهم عدداً من النساء والفتيات والأولاد، وأنّهم أتَوا بهم إلى هذه البلاد ليبيعوهم عبيداً، على اعتبار أنّهم من الكفّار غير الجديرين بالانتماء إلى الإسلام. ويقول تعليقاً على هذه الشائعة بأنه علم في دمشق أنّ العنزة كانوا من أصدقاء الوهابيّين، الأمر الذي جعله يفترض أنّ الحرب شنّتها قبيلة أُخرى، أو عشيرة من عشائر العنزة، وهي أمّة عظيمة. وقد يكون ذلك طلائع حرب جديدة بين الأمّتين، كما يقول.

يتابع باديا والقافلة التي يرافقها طريقهم إلى بلدة قارّة التي يمتدح موقعها ويقول: "أمّا أنا فقد بتّ الليلة السّابقة عند فلّاح مسيحي، وهذه الليلة عند فلّاح مسلم، يتحلّى هؤلاء السكّان بسذاجة خلق، وطيبة قلب كنت أطرب لها فوق الحدّ. وتمتاز بيوتهم بمنتهى النظافة. أمّا هُم ففي سعة من العيش وحسن الهندام. لا ينقصهم شيءٌ من الأثاث أو من المعدّات التي يحتاجونها في مصالح المنزل. وقد لاحظت بنوع خاصّ وفرة الوسائل والنضائد التركية اللطيفة. وهي تؤلّف في الظاهر وسائل بحبوحتهم الرئيسية".


حمص المبنية بالبازلت

من قارّة توجّه إلى قرية حِسية، ثم حمص التي قال إنها: "بلدة كبيرة، يُقال إنّها تضمّ من الخمسة والعشرين ألفاً إلى الثلاثين ألفاً من المسلمين. مع ثلاثمئة مسيحي. وهي خالية من اليهود. فيها عدد كبير من المساجد عالية المآذن، منفصلة عنها على الطريقة التركية. فيها كنيستان للرّوم المنشقّين، وكنيسة سريانية. أسواقها مكتظّة، غنيّة وعامرة بالخلق. والمقاهي الكبرى ليست أقلّ منها ازدحاماً. فيها قيصريّة أو سوق للأقمشة الحريرية، وفيها خانٌ كبير ما عدا غيره من الخانات الصغرى. شوارعها حسنة التبليط، غير أنّ البيوت، وإن تكن حجريّة، خاملة المظهر بسبب لونها القاتم؛ لأنّ موادّها البنائية متشابهة، وهي من البازلت أو الحَجر الأسود. وبالاختصار يُمكنك أن تشاهد في حمص جميع المميّزات المختلفة التي تتميّز بها المدن الكُبرى".

ويضيف: "يظهر أنّ أهل حمص يتولّون حركة تجاريّة ناشطة للغاية. محاصيل الحبوب عندهم عظيمة، وهي من مختلف الأنواع. غير أنّهم يستوردون الزيت من الساحل، والأرُزّ من مصر. المواد الغذائية والمياه جيّدة النوع. وأمّا الخبز فهو أرغفة مثلهما في باقي البلاد العربية. وهم يشربون من ماء نبع، أمّا مياه الآبار فإنّها غير صالحة للشُّرب. يجري نهر العاصي المشهور على نحو نصف فرسخ غربي المدينة، يتفرَّع منه عددٌ من الأقنية لسقاية الحدائق. حاكم المدينة وقاضيها وجميع موظّفي الحكومة هم من الوطنيين العرب، وليسوا من الأتراك. تتبع هذه المدينة والي الشّام الذي يعيّن شيخ البلد، أو حاكم حمص من أهل المدينة أو دائرتها وفقاً لنظام المنطقة".


الرستن الفقيرة

من حمص تواصل القافلة سيرها إلى الرستن التي يقول إنها: "قرية فقيرة، يسكنها المزارعون، وهي قائمة على طرف أهوية هائلة تغسل قعرها مياه العاصي. ويبدو أنّ هذا النّهر ضيق إذا نظرت إليه من علٍ. وهو في هذا المكان يتّجه من الغرب إلى الشمال الشرقي في وادٍ عميق ضيّق الاتّساع، والقرية قائمة إلى الضفّة اليُمنى. جميع البيوت من الحجر الأسود، كما هي الحال في حمص، وعيدان الحراثة من خشب فحسب، وليس فيها سكّة من الحديد. لا شكّ أنّ هذه القرية نعمت يوماً بدرجة من العظَمة. وقد رأيت أنقاضها الكثيرة في بقايا الأعمدة المرمرية العديدة، وفي كُتل الغرانيت الضخمة، وفي الأطلال التي تنمّ عن عهد الانحلال الأخير. وتظهر المجموعة متّصلة بعهدٍ متطاول في القِدم. ألا تكون هذه الأطلال من عهد أطلال تدمر؟ ألا يكون الاختيار قد وقع على هذه النقطة قديماً لتكون - نظراً لأهميتها - محطّة عسكرية؟ لا يتيسّر لي الجزم في هذه القضيّة لفقدان الوسائل التي تمكّنني من القيام بهذه الدراسة".

الصورة
النواعير في حماة - القسم الثقافي
نواعير مدينة حماة على نهر العاصي، 1898 (Getty)

حماة المفاجِئة

وبعد الرستن يصلون إلى حماة التي يقول إن سكانها ضِعفا سكّان حمص، أي يعدّون ثمانين ألف نسمة، ولكنه يرجح أن عددهم يبلغ المئة ألف. ويقول: "موقع المدينة يسحر الألباب، وعلى الأخصّ عند الجانب الرئيسي، وهو إلى الضفّة اليُمنى من العاصي على المستوى الأعلى. ينحدر باقي المدينة بشكل مدرّج حتّى ضفّة النهر، ثمّ يرتفع بالطريقة ذاتها من الضفّة اليُسرى. هُنا تتّسع المدينة اتساعاً هائلاً، فتضمّ في تخومها رابية على شيء من الارتفاع. وبالاختصار فإنّ اتّساع حماة ومظهرها يكشفان عن مدينة من الدرجة الأولى. ولا يسعني السكوت عن إبداء تعجّبي من أنّها لم تلفت بشدّة أنظار الرحّالين والجغرافيين، فأوصافهم وخرائطهم أدخلت في روعي أنّ هاتين المدينتين ليستا سوى قريتين أكبر بقليل من القرى الباقية".


مريض في حلب

من حماة توجّهتِ القافلة إلى حلب فمرّت على المعرّة، ولكنّه بسبب مرضه لا يستطرد في وصف حلب ويكتفي بالقول إنها "تحوي عدداً من الصّروح البديعة في فيض من مختلف أنواع المرمر، وإنّ الجامع الكبير طريفٌ، وإن يكنْ غير فخم، وشوارعها حسنة التبليط، والأسواق مغطّاة. غير أنّ أسواق دمشق أوفر غنىً وموادّ منها. الحرّ لا يُطاق في أوائل أيلول حتى العشرين منه، عند الاعتدال الخريفي. وكان عند ذاك عاصفة كبرى على الجبال الغربية اعتدل الحرّ بعدها. وقد تبيّنتُ بين النّصارى واليهود خلطاً غريباً في الأزياء. فترى قبّعة عريضة على جلباب شرقي مسترخي الأردان".

المساهمون