يبدأ الشاعرُ بالتفكير، بالإحساس، وبالكتابة، انطلاقاً من ذاته، من نفسه، ممّا هو. بهذا المعنى، يستخدم طريقة خاصّة به، مختلفةً عن الآخرين، في انتقاء الكلمات، في تركيبها، في جعلها تدخل في دوّامات مضطربة من أجل أن يخلق إعصاره الخاصّ به. بهذه الطريقة فحسب، ينتج الشاعر كلامه الخاص، وهكذا فقط يُعبّر عن عالمه الشعري، يكشف لنا عوالمه الداخلية، هواجسه، أحلامه، ولمَ لا، المعاجم التي تُكتب طيناً وناراً في أحشائه.
تحديداً من هنا، من معجم الأحشاء الداخلية الملتهب، يحفر الشاعر الفلسطيني علي أبو عجمية (1988) في ديوانه "معجم الآلام" (دار الأهلية، 2023)، قاموس مفردات قصيدته على أرض القصيدة العربية الكلاسيكية، مشيّداً وهادماً، في الوقت نفسه، قصيدته الأُولى، فقد قرّر أن "يترك الفأس والأشجار للعبث"، وعلى مفترق الموت، هناك، فوق القبر والجثث، صمّم أن يكتب الملح "أصفى من الصداقة"، وأن "ينادي الريح كي تنبعث في ورحه".
الكتابُ، الذي يقع في 144 صفحةً، مقسَّمٌ إلى عشرة أقسام جاءت عناوينها على الشكل الآتي: "مجاز الإقامة في الأرض"، و"في معمل الرائحة"، و"الانتماءات الجديدة بالعشب"، و"حرفة الوجه والتمثال"، و"أعمل في جراحة القصب"، و"معجم الآلام"، و"مُكابدات"، و"زهرة ابن آوى"، و"مُعلّقة النحل"، و"كُوفيد التاسع عشر". راوحت القصائد في شكلها بين العمود والتفعيلة وقصيدة النثر، ومن أجل ذلك كان لا بدّ من أن يعوّل أبو عجمية على لغة المجاز والصور البلاغية لكي يعبّر عن صوته الذاتي المسموع في المجموعة:
"أنا الفأسُ المأهولةُ بالغاباتِ والدَّم،
أنا اليدُ العماءُ والمعدِنُ القطيعةُ والشِقاقُ المكلوم.
احتطب بي أموماتٍ وجذوعاً جاحدةً، واخرج بها في سبيلِ التعاسةِ والمجد.
أنا الهدنة الماكرةُ؛ الضغينةُ الفاسدةُ؛ المشاجرةُ البديعةُ في ابتكارِ العِناقِ والقتل.
لن يمهلني عنكَ الرجاءُ ولا الجنازةُ. لن يكفيني منكَ الهلعُ القويّ".
بين اليُتم والزوارق، بين الخريف والطفولة، بين المسافات والأنوثة، بين الرؤيا والأحكام، تتموّج قصيدة الشاعر الفلسطيني كأنّها لحن عابر بين الأزمان، كأنّ صاحبها أراد أن يتنزّه بين الأزمان الشعرية، مجرّباً أدواته اللغوية والفنية، وناحتاً صوراً فريدة ومفردات تتمزّق من معجم آلامه، وآلامنا، بسبب الهجران والشتات الذي تعانيه المدن العربية والإنسان العربي، كأنّه، مناجياً نفسه، يتحدّث مع أخيه العربي:
"الرُّكام مَجازُنا. والأرضُ، كلُّ الأرضِ، أعطت ظهرها".
لا شكّ أن الشاعر الفلسطيني يتجادل في كلّ قصيدة يكتبها في ديوانه مع مفردات الطبيعة - الأرض - الحبيبة؛ هذه الأرض التي لا تتذكّر إلّا مصادر الدماء، والآلام، والشتات، والنفي، والتشرّد، والتعذيب، الذي عاناه الإنسان العربي عموماً، والفلسطيني بشكل خاصّ، كأنّه يرى الألم بكلّ معانيه ومفرداته، بكلّ معاجمه، رابضاً يتصيّد البشر. لكن الجمال أيضاً يتصيّد:
"وُلدتُ منها، ومنهم، كلّما وُلِدت
منك الزوارقُ من ماءٍ على الماء".
في "معجم الآلام" يمنح علي أبو عجمية كلَّ كلمة عمراً. مفرداته المليئة بالجرح والحب لا تشيخ، لا تُستنفد، فقد حرص على منحها لهباً جديداً، لقد تمكّن من إعطائها تعويذة الفتوّة الدائمة. هكذا تصير الكلمة الشعرية شعاعاً في نسيج القصيدة، تصير ماء لا يصنع به الشاعر إلّا الينابيع:
"يمشي ويشقى ويرتابُ الهواء بهِ
والأزرق الماء يهدي في رسالته:
نخبان أعلى، وطير الملح مفرده
أن ليس يتبعُ في تعدادهِ أحدا".
علي أبو عجمية شاعر فلسطيني من مواليد مدينة الخليل عام 1988، ويعيش فيها. صدر له: "سَفرٌ ينصت للعائلة" (الدار الأهلية، 2013)، "نهايات غادرها الأبطال والقتلة" (الدار الأهلية،2017)، درس الهندسة الكهربائية، وإلى جانب الشعر يكتب المقال الثقافي والنقد الأدبي.