لا يدخل الإنسان الطبيعة، والمناظر الطبيعة، كمحتلٍّ أو فاتحٍ، بل يدخلها، عادةً، كضيف. تتبنّى الكاتبة الإسبانية روسا باراسواين Rosa Barasoain، بوعي أو بلا وعي، هذه العبارة، وتجعلها مفتاحاً للدخول إلى حدائق كتابها الجديد "على دروب النباتات"، الصادر مؤخَّراً عن دار نشر Fertilidad، حيث تتجوّل عبر صفحاته في الأماكن التي اكتشفَت فيها، وتبيّنت، وتعلّمت كيفية التعرّف إلى النباتات، والورود، والأزهار، والأعشاب، أي كيفية التعرّف إلى الطبيعة وملاقاتها. لا تكتفي بهذا فحسب، بل تتتبّع تاريخ وخصائص كلّ نبتةٍ، تماماً مثل البشر. كأنّها بنصوصها تبتكر لقاحاً لتُخفّف من آلامها، من إهمالنا للطبيعة، ومن الجرائم التي نرتكب بحقها.
كتابها، ضمن هذا المعنى، نزهة في الغابة. شهادةٌ على عالم يكاد أن ينقرض: الطبيعة آخذة في التضاؤل والانكماش والتناقص، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قدرتنا على العناية بها، رؤيتها والإحساس بها.
تروي باراسواين، في كلّ صفحة أرفقتها بلوحات للرسّامة المدريدية ليتيسيا رويفيرنانديز Leticia Ruifernández، لقاءاتها الأُولى مع عالم الطبيعة، مع أعشابها وورودها. معها نتعرّف، للمرّة الأُولى، إلى عجائب وغرائب نباتاتٍ وأعشاب وزهور لا تنمو إلّا في عمق الغابة. الزّغدة، مثلاً، أو زهرة الربيع، كما تُعرف، هي أوّل زهرة تنمو مع المياه الذائبة في الطبقات السفلى من الغابة. عشبة ذيل الحصان تنمو أيضاً في فصل الربيع ولها شكل الهليون المجوَّف. لونها بندقي. وهي عشبة قابضة ونادرة بعض الشيء، يأكلها اليابانيّون بعد غمسها بالبيض والطحين وقليها. سعرُ زهرة الأوركيد المرتفع تنسبه المؤلّفة إلى رحيقها الساحر، والروايات والأساطير الكاذبة التي تقول بأنها محفّز ومقوٍّ جنسيّ.
الطبيعة آخذة في التضاؤل وقدرتُنا على العناية بها أيضاً
البليس، المعمر أو زهرة اللؤلؤة، تنتشر في الغابة وتعلن فصل الربيع. اسمها مرتبط، كما تشير المؤلّفة، بطموح الخلود وتواضع الأقحوان البرّي. اسمُها العلمي "Bellis Perennis"، مشتقّ من اليونانية، وترجمته الحرفية اللؤلؤة الأبدية: لآلئ تفرش المرج، لا رحيق ولا رائحة. مع ذلك إنّها فاتحة الربيع. تضيف الكاتبة.
إكليل الجبل يترأّس الأعشاب، كما تقول المؤلّفة، وتقتبس بيتاً من مالارميه يقول فيه: "لا رحيق أشدّ قداسة من إكليل الجبل". البكورية أو "الكحلى"، كما يطيب لي أن أُترجمها، تطارد ضوء الشمس: تتفتح مع كلّ صباح وتنام مع الغروب. ساق الدب، أو الهرقلية، نسبة إلى هرقل، يصعب العثور على ساقها، إذ يمكن أن يصل طولها إلى مترين. تستطرد المؤلّفة في الحديث عن هذه النبتة وتقول إنّ الطبيب الفرنسي هنري لوكلير، الذي عاش في باريس حتى عام 1955، استخدم ساق الدبّ، أو الهرقلية، كمقوّ جنسي أمام الإرهاق والتوتّر. في المقابل، استُخدمت النبتة نفسها في كامتشاتكا أو في سيبيريا في الأطعمة، وكانت لها قيمة غذائية كبيرة.
تمزج باراسواين بين تجاربها الشخصية مع النباتات والمعلومات التاريخية. تُخبرنا، على سبيل المثال، أنّ الأزهار الزرقاء الصغيرة، "القنطريون العنبري"، أو كما تُعرف عربياً باسم "وردة الذرة"، اسمها مشتقّ من لون السماء، وقد اختارها الرسّام والفنان الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي لطلاء عباءة فينوس في لوحته "الربيع"، والتي تُعدّ واحدة من أكثر اللوحات إثارة للجدل في العالم، علاوة على كونها من أكثر اللوحات شعبية في الفنّ الغربي. أمّا الوردة التي تُطهّر النظر وتنظّف العيون فهي القرنفل البرّي المتلبّد الذي يظهر في فصل الصيف، لا سيما إلى جانب أشجار السنديان.
تشير المؤلّفة إلى أنّ نبات "الملفا-المتواضعة"، أي الخبّاز عربياً، "بسيط ومتواضع لدرجة ألّا أحد يراه"، على الرغم من أنّ ملك الفرنجة، شارلمان، أدرجه ضمن 80 نباتاً طبّياً ينبغي أن يتوفّر في بساتينه وحدائقه وقصوره. ويشير اسمها النباتي البرّي إلى التواضع، وهي تتنافس في هذه الخاصية مع الخشخاش، الذي جاء من الشرق الأقصى، وحاولوا التخلّص منه بعد الحرب العالمية الثانية.
وتستفيض الكاتبة في الحديث عن نبتة شوكية تُدعى "الممشقة المحزازية"، بلونها الأخضر ذي الخطوط الأرجوانية التي تشكّل وعاءً يساعد الطيور كي تشرب الماء منه. تُعتبر هذه النبتة طبيّة، وهي تُدرَس اليوم كعلاج محتمل لمرض لايم، الذي تسبّبه لدغة القرادة.
"الجنطيانا الصفراء"، أو كف الذئب، هي سيّدة الجبل، كما تقول المؤلّفة، بأزهارها الصفراء المتجمعة على طبقات وارتفاعات مختلفة من الساق.
بنثر سلسٍ غني بالصور أقرب ما يكون إلى الشعر تمشي روسا باراسواين على دروب النباتات، في الغابات والحقول. تعبر نهراً، تهبط وادياً وتصعد هضبة. تكتشف جمال الطبيعة، تتحدّث مع الأعشاب والمخلوقات التي تعتني بها وتتكاثر فيها. تتبادل مع صيدلاني الطبيعة ميثاق الطبع البشري. تقصّ علينا أسرار وعجائب عادةً ما نتجاهلها، لأنّها قريبة منا. بعض النباتات، مثل البشر، يعرف الموت، ويعرف المنفى.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا