"عصر مُظلِم جديد" لـ جيمس برايدل: ماذا بعد نهاية المستقبل؟

29 نوفمبر 2022
جيمس برايدل (ويكيبيديا)
+ الخط -

يعاني عصرُنا الراهن من دَفقٍ هائل في المعلومات بالمعنى التقني المُباشر. قد لا تقول العبارة هُنا أي جديد، إلّا أنّ لهذا التراكم الكمّي انعكاساته على حياتنا اليومية بما هي سياسة واجتماع وتواصُل بشري... انعكاساتٌ تدفع صوب حالة لا مُتماسكة قوامُها آلاف الآراء، سرعان ما يُختزَل الواقع معها إلى سرديات تبسيطية، ونظريات مؤامرة، وسياسات ما بعد الحقيقة. هذه هي الأفكار التي يُلخّص بها الكاتب والفنّان البصري البريطاني جيمس برايدل (1980) نظرته إلى العالم، في كتابه "عصر مُظلِم جديد: التقنية والمعرفة ونهاية المُستقبل" ("فيرسو" 2018)، الذي صدرت ترجمته الصيف الماضي ضمن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت، بتوقيع المترجِم المصري مجدي خاطر.

يسعى الكتاب إلى تفكيك المنطق الذي ظلّ سائداً في أوروبا وأميركا بعد عصر التنوير، وتبنّته تياراتٌ مختلفة منذ مطلع القرن التاسع عشر، والقائم على فكرة أنّ العلاقة بين المعلومات والنتائج طرديةٌ، كلمّا زادت الأُولى كانت الثانية أكثر دقّة، وهي صيغةٌ رياضية توحي بتوافقٍ ما مع المعلومات، كون هذه الأخيرة هي تجسيدٌ وَفيّ للأُسس الرياضية والخوارزميات الذكية التي باتت تسري في حياتنا اليومية. 

ولكن برايدل يخطو خطوةً معاكسة، ويُثبت أنّ الطردية تتنافى مع ما نعايشه ونلمسه، فالمعلومات تجعل فهمنا للعالم مُلتبساً، وشيئاً فشيئاً تصبحُ قدراتنا الاستيعابية أبطأ، ومن هُنا جاءت استعارة الصفة "مُظلِم". أمّا ترجمة هذا بلغة الأفكار والأيديولوجيا فمتعدّدة، لكنّ أخطرها هو أنّ الطريق واحدة تلك التي تصعد من خلالها الأصوليات (الدينية وغير الدينية) حول العالم، وتعبُرها في الوقت عينه سياساتُ ما بعد الحقيقة، والفلسفات النسبوية.

باتت المعلومات تجعل فهمنا للعالم مُلتبساً واستيعابنا أبطأ

يُحافظ برايدل في عمله على لغة مقتضبة، أكثر ما تبرز في عناوين الكتاب، وهي: "صدع عميق"، و"حوسبة"، و"مناخ"، و"حساب"، و"تعقيد"، و"إدراك معرفي"، و"تواطؤ"، و"مؤامرة"، وتزامُن"، و"سحابة". تنمّ هذه العناوين، من جهةٍ أُولى، عن عملية تحقيل تفصيلية يُطبّقها الكاتب على الاشتباكات المعرفية المعقّدة، والتي لا تني التقنية عن ضخّها في العلوم. إلّا أنّها، من جهة ثانية وهي الأهم (ما زلنا نتكلّم عن لغة الكتاب)، تُدلّل على الخلفية التي أتى منها الكاتب، فالرجل ليس فيلسوفاً بالطبع، ولا غاية أقواله إحياء أيّة سردية كُبرى عن التاريخ، هو يُشير بلغة تجمع بين فهم تقويضي نَزِق وأمانٍ بتضامن إنساني موعود، إلى ما أوصلتنا إليه حالة بعد الحداثة. 

أمّا نقوداتُه التي يوجّهها بالضدّ من الخوارزمية والذكاء الاصطناعي فتُشبه - إلى حدّ ما - تلك التخوّفات التي انتابت (وانتهت) مُجايله مالك "ميتا" مارك زوكربيرغ (1984)، قبل أن يُبدّدها له مالك تويتر الجديدُ إيلون ماسك (1971)، في سجال شهير بينهما على تويتر عام 2018، إذا ما كانت ستتسيّد الخوارزمية حياتنا وتتحكّم بها أم لا.

ليس برايدل مليونيراً مثل زوكربيرغ، ولا يمينياً يتشهّى عودة ترامب إلى الرئاسة وتويتر مثل ماسك. فلو عُدنا قليلاً إلى سجلّ برايدل في الفنّ الرقمي، لوجدنا أنّ أحد مشاريعه قبل عقد أو أكثر تقريباً حمل عنوان "دروناستغرام"، وقد نحت هذا المصطلح من كلمَتي "درون" أي الطائرة بدون طيار، وتطبيق التواصل الشهير - و"الأكثر شبابية" - إنستغرام. وقد رصد من خلاله عمليات القصف والإغارة التي تقوم بها هذه الآلات التابعة للجيشين الأميركي والبريطاني، في بُلدان مثل الصومال وأفغانستان واليمن، واصفاً إياها بالمقزِّزة.

نبقى مع التمثيلات السياسية التي يستدعيها برايدل إلى عمله مع بداية كلّ فصلٍ من فصول كتابه؛ فإنّ أغلب أمثلته هي خوضٌ في الشأن العام بما هو جماعات سياسية، وليست نظرةً فردية مُشظّاة عن الإنسان. ويُمكنُ إرجاع السبب وراء هذا التوجّه، إلى أنّه - ربّما - رغبة معاكسة وغير مقصودة للسرديات النيوليبرالية عن التاريخ، والمُهيمِنة على زمن ما بعد الحرب الباردة، التي أوصلت التاريخ إلى نهاياته المسدودة التي لا يُمكن تجاوُزها. مع أنّ برايدل لم يستطع الحياد عن هذا الفهم بل أثبته في عنوانه الفرعي، وإن كان قد أحال النهاية إلى المستقبل لا الحاضر.

لم يحد عن مفهوم "النهايات" بل أثبته في عنوان الكتاب 

من جهة أُخرى، فإنّ الإطار المريح الذي يصوغ فيه أمثلته، هو التضامنات الإنسانية التي يخشى عليها ويرى أنّ التقنية فشلت في تعزيز تلك الروابط، ودليلُ هذا من تاريخنا الحي، حيث لم يتشكّل أي رادع أمام ارتكاب المجازر، أو "الأعمال الإرهابية". وهو هُنا يردّ على رجل الأعمال والرئيس التنفيذي السابق لغوغل، إيريك شيميت (1951)، الذي صرّح بأنّ إبادة رواندا الجماعية عام 1994 ما كان لها أن تقع لو أنّ الناس كانوا يملكون هواتف ذكية! ويُدرج برايدل عدداً من المجازر التي رصدت الأقمار الصناعية تحرّكات قَبْلية لها، دون أن يتغيّر شيء، إن لم تزد التقنية من خطاب الكراهية والعنف نفسه.

عصر مظلم جديد - القسم الثقافي

وعن معنى الظلامية التي اختارها في عنوانه، يعود برايدل بنا إلى الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف (1882 - 1941) - لا فِكاك أبداً من الأدب واستعاراته بعد هذه الجرعة الثقيلة من الأحاديث التقنية -. وولف التي كتبت في جوّ الحرب العالمية الأولى "المستقبل مُظلم، وهو في رأيي أفضل وضع يمكن للمستقبل أن يصل إليه". بعد ما يزيد على مئة عام من تلك الصرخة، يأتي كتاب برايدل ليُصرِّف لنا المعادلةَ، فالأمر بزَعمه لا يحتاج لنبوءات كُبرى ولا أيديولوجيات تبشيرية بطبيعة الحال، وهو بهذا يكرّر مُعضلة "نقّاد التنوير" سواء وعوا ذلك أم لا، أو لأنّه قادم من خارج قوس الفلسفة.

مع ذلك، تبقى نقطة التقاطُع التي يقف عندها، تتمثّل بحيثُ يلتقي الفن بالتقانة، (مَن قال إن البرمجة، أو ما يُسمّيه "فخّ التفكير الحوسبي"، وحدها وظيفة المستقبل المثالية؟). هنا يُقدّم شهادةً مُختلفة عمّا تُبشّرنا به دعاية شركات الحوسبة والاتصال الكُبرى، وروّاد الأعمال الصغار المرتبطين بها. وهذا ما يستكمله في كتابه الجديد الصادر في نيسان/ إبريل الماضي عن "بنغوين"، تحت عنوان "طُرق الوجود"، حيث يحاول فيه استكشاف الذكاءات البيئية المتعدّدة من حولنا، الموجودة في النظام الطبيعي، والمختلفة تماماً عن الذكاء الاصطناعي والترويج له.

المساهمون