- استشرف السياسة من موقع فكري، محافظًا على مسافة نقدية، وفي سنواته الأخيرة ركز على الكتابة والتحليل، خاصةً في كتابه عن "سورية والصعود الأصولي" الذي يعكس نهجه العميق في فهم الأحداث.
- عاش في جغرافيا متشظية، متأثرًا بتجاربه المتنوعة واختار أربعة أبطال فكريين وبطل سياسي كمصادر إلهام، مع تأثره بنشأته في دمشق والثورة الناصرية والجزائرية، متبنيًا نهجًا علميًا في دراساته.
مثّلت خمسة عقود ونيّف من اشتغال المفكّر والأكاديمي السوري عزيز العظمة (1947)، جزءاً حيويّاً من مدوّنة الفلسفة العربية المُعاصرة والدراسات التاريخية وبالخصوص التراث والعلمانية والقومية. وفي كتابته الموسوعية في حقول مختلفة ومتداخلة بنيويّاً، كان العظمة يُثبت جدارته لمن يتّفق أو يختلف معه، لسبب أول هو التزامُه الصارم بالمعرفة وإنتاج المعرفة مُتخفّفاً من ضغط القوالب الجاهزة قدر وسعه، مثلما قد يراه آخرون إدارة ظهر للحظة الساخنة.
وكانت محاضرته في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، مساء الأحد الماضي، بعنوان "مسيرة فكرية في السياسة والفلسفة والتاريخ" وقدّمتها الباحثة إليزابيث سوزان كسّاب، رئيسة برنامج الفلسفة بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، افتتاحيةً لسنّة مُثرية تستقرئ سير ضيوف هذه المحاضرات في النواحي المهنية والفكرية والذاتية.
والذاتية تكتسي قدراً من الأهمية، لجهة التفاتها نحو تجربة وهي من لحم ودم، وقفت خلف أفكارها المُجرّدة "على جسرٍ من التعب"، إضافة إلى أنها تكشف هوامش وخلفيّات تجعل للنص تاريخاً شخصياً ضمن علاقته بالحيّز العام ومجالات الاصطدام الناعم والخشن.
بُعد آخر
والتعب الناجم عن جهد مُثابر في الإحاطة الأفقيّة والحفر العمودي "يُضفي بُعداً آخر على طابع الفهم"، وفق ما يُعبّر العظمة. فهو مثلاً يُتابع تفاصيل السياسة اليومية والتفكُّر فيها، لكنّها "متابعة مع شيء من البُعد، أي من موقع استشرافي، ومحاولة الفهم".
استشرف السياسة من موقع فكري ولم ينخرط في ممارستها
قبل أن يتفادى السياسة في السنوات الأخيرة ويُقلع عن الكتابة في الصحافة، كان في السنوات الموالية لعام 2011 يشتبك سياسيّاً بطريقته التي تقوم على الفهم والكتابة والتوصيف.
لكنّ محاولات جَلْبه إلى سياق مُعارض سياسي سوري لم تؤدّ إلى انخراطه المُباشر، لأسباب يقول إنها تعود إلى طبائع ومواصفات لا تتوافر لديه، ومنها الصبر، والحال أنها أيضاً لم تتوافر فيمن ترأّسوا الكيانات المعارضة و"فشلوا"، أما هو فبحسب ما يشرح "واعٍ لحدود إمكانياتي". لنأخذ كتابه "سورية والصعود الأصولي.. عن الأصولية والطائفية والثقافة" عام 2015، الذي تابع من كثب صعود "داعش"، وأعماله الخارجية وديناميته الداخلية باستخدام بعض المفاهيم الأنثروبولوجية وعلم النفس الجماعي. هو يرى في هذا المقام أن "مساهمة الفهم عنصر أساسي في العمل إن كان لها جدوى فعلية".
جغرافيا متشظّية
مسيرته الذاتية لم يبدأ بها على جاري القول من الطفولة إلى بلوغه عامه السابع والسبعين لدى إلقائه المحاضرة، بل من خلاصة مكثّفة تُفيد بأنه عاش في جغرافيات وعلاقات اجتماعية وصداقات متشظّية، كأنها حياة ظَعْن، وهو يستخدم "بشكل واعٍ" كما يُصرّح كلمة الظَّعْن البدوية، التي تعني الرحيل أو السفر من الديار.
تعوّد ضيفُنا على الكتابة تحت الضجيج العارم في العقود الثلاثة التي تلت نصف القرن العشرين، وهي التي تعرف بالحرب الباردة حتى نهايتها، إن جاز التعبير، عام 1989، أو انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وعليه ينتمي العظمة إلى فئة المخضرمين كما قالت العرب فيمن يعايشون عهدين مفصليّين.
ولحظة الانقطاع التي ينظر إليها مع انتهاء الحرب الباردة تُوحي عنده بغربة عن هذا الماضي، قائلاً إنّ ثمة قدراً من التناسي، وقدراً من سوء التقدير. بعد الحرب الباردة عاين العظمة أنّ من نتائج نهايتها ضمور القومية والاشتراكية وزوال مفهوم التنمية والاستعاضة عنه بمفهوم الترشيد في إنفاق الدولة وسياساتها، وكذا ضمور أي فهم للتنمية الاجتماعية باعتبارها عملية تحويل للعلاقات المجتمعية والمرأة والرجل والأسرة، وشبه انزياح كلّي بشأن التخلّف والفوات "حتى صرنا في وضع انقلب فيه التخلّف من ظاهرة تاريخية يجب التعامل معها بسياسات معينة الى فضيلة وعفّة حضارية".
انفتاح على الاحتمالات
أخبرنا العظمة أنه تقاعد من السلك الأكاديمي منذ ثلاث سنوات حين كان في الرابعة والسبعين من عمره. وكانت المساحة الجغرافية التي درّس فيها تلاميذه واسعة من أوروبا وأميركا والوطن العربي. وما زال على قناعته بأن المسار بدايةٌ وطريقٌ ونقطةُ وصول، ألا وهو الحاضر من دون أن تكون هي نقطة النهاية، بل موقع انفتاح على احتمالات مناطُها محبّة الحياة وفضولُ المعرفة الذي لا يراه ينضب.
في فهمه للعروبة تأثّر بقسطنطين زريق لا أفكار البعث
ممّا يأتي في سيرته العلمية والتأليفية إسهامات عريضة، من بينها: "ابن خلدون وتاريخيته" (1981)، و"الفكر العربي والمجتمعات الإسلامية" (1986)، و"ابن خلدون في البحث الأكاديمي الحديث" (1990)، و"العلمانية من منظور مختلف" (1992)، و"ظهور الإسلام في أواخر العصور القديمة: الله وشعبه" (2014)، و"أزمنة التاريخ: مباحث في كتابة التاريخ الإسلامي" (2020). وقد يفيدنا الانتباه إلى أن أول كتاب صدر له في كانون الأول/ يناير عام 1969 "اليسار الصهيوني من بدايته حتى إعلان دولة إسرائيل" وكان ابن 22 عاماً يبشّر بهذا النوع من الكتابة القادمة. في المقدّمة كتب أنيس صايغ (1931 - 2009) المدير العام لـ"مركز الأبحاث الفلسطيني" أنّ العظمة "حرص على أن يتّبع منهجاً علمياً خالياً من الأفكار المسبقة قدر المستطاع".
أربعة أبطال
بعد كلّ هذا المسار من اليفاعة والشباب والتدريب المدرسي الأوّلي في الجامعة والانتقال الى أن أصبح جامعيّاً مُحترفاً ومثقّفاً في المجال العام العربي والعالمي، ثم في الفترة الأخيرة إلى باحث أكاديمي اختار العظمة أربعة أبطال.
الأول قال إنه الجاحظ لبصيرته الثاقبة، والثاني ابن خلدون لموقعه الاستشرافي من تاريخه الذاتي والجماعي، والثالث توماس هوبز، لمقدرته على تحييد العاطفة والتفكير بطريقة شبه رياضية في الشؤون السياسية، والرابع ديفيد هيوم لسبب مشابه مع براعة أكبر في لَيِّ الكلام، على حدِّ قوله. هؤلاء أبطالُه في الفكر والفلسفة والتاريخ والعلوم، بيدَ أنّ لديه بطلاً سياسياً هو مصطفى كمال أتاتورك الذي قال إنه يحتفظ بصورة له في مكتبه.
وبالطبع لن تجد أحداً يُجادل في اختيار قوائم الأبطال في الأدب والفنّ والعلوم، لكن صورة أتاتورك بطلاً شخصياً لا تبدو سلسة، وتحتاج أقلّه إلى الاستفهام. والجواب عند العظمة واضح فأتاتورك "قائد وطني لأنه خلق أمّة من دمار". وكرّر غير مرّة أنّ التاريخ ليس ملاكاً، والحال أنّ أتاتورك لم يكن كذلك، ولكنّه كان قائداً فاعلاً صنَع جماعة سياسية ودولة مؤسسات ما زالت فاعلة، حتى إن قائداً كبيراً بحجم أردوغان ربما تمكّن من إخضاعها بأشكال سياسية، لكن لم يكُن قادراً على تفكيكها، كما واصل.
دمشقيّة بالسليقة
في النشأة الأولى عاش وسط عائلة سيطر عليها الجدّ الذي كان مُنخرطاً في السياسة منذ الحرب العالمية الأُولى. بيتٌ سياسي ذو جوٍّ عروبي وأُسرة عربية دمشقيّة بالسليقة مع أنّ الأصول الإثنية تركية، وهي ليست بحاجة إلى جلبة إعلان هويتها.
في طفولته المُبكّرة كانت الثورة الناصرية في مصر والثورة الجزائرية، ومن الطبيعي أن يتشبّع بهما ليُصبحا جزءاً من تكوينه الفكري. ترافق هذا المناخ مع دراسته في مدارس أجنبية ثم انتقاله الى "مدرسة برمانا الداخلية" في لبنان ذات اللسان الإنكليزي. وإذا طالعنا تاريخ إصداره أول كتاب في الثانية والعشرين من عمره، سنصدّق بالفعل أنّ القراءة في مراهقته لم تكن هواية، بل انكباب أساسيّ تجاوز كثيراً ما كان مطلوباً من تلميذ مدرسة.
جهد موسوعي شمل حقولاً فكرية من التراث إلى الحداثة
قال إنه وقتذاك قرأ المسرح اليوناني ثم انتقل إلى روايات القرن التاسع عشر وبالخصوص منها الروسية والفرنسية. ولنأخذ هذه النقلة التي ستخرج منها خلاصة طريفة، إن كان ثمة متّسع للطرافة. ففي سنوات المُراهقة أُصيب عزيز العظمة كمعظم المراهقين بالضجر، وهنا قال "تلقّفتُ الضجر كحالة وجودية كالكثيرين، وأحسستُ بمشاعر إحباط وغربة، وضيق لا مبرّر لها لكنّها كانت ترضيني". الآن بعد كلّ هذه العقود يقول: "ما زلتُ أعتقد جازماً أنّ الوجودية فلسفة لمرحلة المراهقة، وأن هناك نوعاً من التعاطف بين ضرب مُعيّن من القومية العربية التي نسمّيها القومية البعثية وبين الفلسفات الوجودية"، ويرى أن أحد التمثيلات على ذلك رواية "جيل القدر" لمطاع صفدي عام 1961 وهي رواية قومية ووجودية.
إلى اليسار
لا يخلو أيّ منعطف عمري عنده من الإقرار بفضل أو بمفتاح قد يكون قدرياً أو محفّزاً إلى ترك معترك ودخول معترك آخر. فقبل دخوله الجامعة استهوته رواية "الغثيان" الشهيرة لجان بول سارتر، وأسرَته جملة "أنا أكرههم" والإشارة إلى البرجوازية فـ"قرّرتُ أن أكره البرجوازية وأن أكره وسطي الاجتماعي وكانت هذه نقطة الانطلاق إلى اليسار السياسي". هذا اليسار في عقدَي الستينيات والسبعينيات كان متصادياً مع تكثيف فكري واجتماعي وثقافي لهاجس التخلّف والفوات الذي كان ساكناً في الفكر النهضوي العربي لمدّة قرن الحرب. وفتحت هزيمة 1967 الباب أمام صياغات أكثر حدّة.
أما بيروت فكانت تعجُّ بأجواء تسمح بقدر كبير من التثقيف الفنّي والأدبي والسينمائي. في الجانب الثقافي أشار إلى علاقته بالشاعرَين توفيق صايغ وخليل حاوي، واتصاله الاجتماعي بالوسط الطليعي الأدبي النسوي ممثّلاً في ليلى بعلبكي وغادة السمّان، وقرأ في هذا السياق ما كان يجب أن يقرأ مثل سيمون دي بوفوار والأدب النسوي الأميركي المبكّر في السبعينيات.
وفي النشاط السياسي خلاصة مفادها: "من لم يكن يسارياً في ذلك الوقت لم يكن مثقّفاً في المساحة العربية التي وسمتها نزعة التحرّر الوطني والاشتراكية".
وعليه قال إن النشاط دار بشكل رئيسي حول القضية الفلسطينة وحرب فيتنام، ورافق ذلك توسّع بالغ في القراءات حول الماركسية وتاريخ الثورة الروسية، ثم الاقتصاد السياسي والتنمية ومن ذلك كتابات سمير أمين. وللتعرّف إلى "العدوّ الرأسمالي" قرأ الكثير عن الولايات المتّحدة وعن نقد الثقافة فيها في أعمال مثل "الإنسان ذو البُعد الواحد" لهربرت ماركوزه.
نتَج عن كلّ ذلك مجموعة من المقالات المترجمة في الفلسفة الماركسية، ثم إصداره الترجمة الأولى لغرامشي مع "الصديق والرفيق آنذاك" وقد كان يسمّي نفسه "زاهي شرفان" والذي هو في الواقع الكاتب وضاح شرارة. ولم يغفل العظمة نشره في مجلّة "دراسات عربية"، و"دار الطليعة"، ونشوء صداقة وثيقة بينه وبين بشير الداعوق (وهو زوج غادة السمّان) مؤسس المجلّة والدار.
تتبَعُ دراساته منهجاً عِلمياً خالياً من الأفكار المسبقة
وإلى قسطنطين زريق المؤرّخ والمفكّر العربي الذي رحل عام 2000، تحيّة تقدير أزجاها العظمة في كتاب صدر بعد ثلاث سنوات من رحيل زريق بعنوان " قسطنطين زريق عربي للقرن العشرين". وهو يرى أن زريق الذي ابتدع مفهوم النكبة وكتب عام سبعة وستين بعنوان" النكبة مجدّداً"، من مؤسّسي الفكر القومي العربي بشكله الصافي المبني على عقل تاريخي نقدي فاحص، لا قومية رومانسية على مثال حزب البعث، بل بدراسته الواقع السائر إلى التقدّمية والحداثية في التاريخ المعاصر مترجماً في إنجازات الدول العربية الحديثة.
ماذا تبقّى؟
ماذا تبقّى من دمشق التي "ظعَن" منها وكان يفترض أن تكون الراحلة التي حين ترحل يسمّونها "القافلة" على سبيل التفاؤل، كما الصحراء التي نسمّيها "مفازة" أملاً في النجاة من الضياع؟ اقتصرت علاقته بدمشق على الأسرة وأصدقاء الطفولة، ولكنه بعد أن طبقت شهرته الآفاق في المحافل العِلمية الغربية والهندية والتركية، لم يُدعَ إلى دمشق سوى مرّة يتيمة من خلال "المركز الثقافي الدنماركي" في ندوة حول العلمانية وبإذن من المخابرات.
في هذه الأثناء قال إنّ اختلاطه كان أوثق في المحيط العربي من لبنان ومصر والمغرب وغيرها، والحال عنده أنّ سورية باتت "منغلقة". إذا كان الرجل المخضرم بين التحوّلات الكبرى إبّان الحرب الباردة وما تلاها، مسكوناً بذلك التطاحُن الفكري والأدبي والفنّي، فإنه حتى اللحظة يُفضّل الكتابة على خلفية موسيقية عالية. منذ المراهقة كان لديه مزاج موسيقي متعدّد الأبعاد كما قال، ومن هذا الكلاسيكي الغربي كما يميل إلى موسيقى "الفادو" البرتغالية، وعربيّاً قال إنه أميَل إلى سماع القديم من محمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم.