عبد الله بريمي.. في مسالك الكون السيميائي

07 يناير 2021
عبد الله البريمي في بورتريه لـ عبد الله السالمي
+ الخط -

منذ إطلاقه كمشروع أوّلي، بداية القرن العشرين، من قبل عالم اللسانيات السويسري فرديناند دي سوسير، عَرف حقل السيميولوجيا - كعلم يجعل موضوعَه العلامات - توسّعات عدّة، فالحقل المعرفي الذي كان هدفه "دراسة العلامة ضمن الحياة الاجتماعية"، والعبارة لـ دي سوسير، أصبح يُخضِع لدرسه كلّ شيء حوله. هكذا باتت النصوص الأدبية، فالأعمال البصرية، فظواهر الحياة اليومية موادَّ يشتغل عليها السيميولوجيّون، وصولاً إلى اعتبار الثقافة في مجملها نسيجاً من العلامات، وبالتالي فهي أيضاً مادّة ينبغي أن يتصدّى لها البحث السيميولوجيّ، وهو ما أرساه ضمن جهاز مفاهيمي مضبوط المفكّر الروسي يوري لوتمان.

انعكس هذا التوسّع للمعرفة السيميولوجية على مجالات البحث العربية، فجرى الخروج تدريجياً من دوائر الأدب، إلى الفضاءات الجديدة التي يحتكّ بها علم العلامات. ويمكن أن نذكر في هذا السياق أعمال الباحث المغربي عبد الله بريمي (1970)، ومنها: "السيرورة التأويلية في هرمينوسيا هانز جورج غادامير وبول ريكور" (2010)، و"السميائيات التأويلية: الامتلاك الثقافي للذات والعالم والنص" (2014)، و"مطاردة العلامات: بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس" (2016)، و"السيميائيات الثقافية: مفاهيمها وآليات اشتغالها" (2018).

يوم الإثنين الماضي، كان بريمي ضيف برنامج "النقاد وما يقاربون"، الذي ينظّمه "الملتقى القطري للمؤلفين"، في حديث بعنوان "من السيميائيات العامة إلى السيميائيات الثقافية"، وقد ناقشه من الدوحة الباحث الجزائري عبد الحق بلعابد.

بدأ بريمي كلمته باستذكار مجمل هذه المشاغل "في جنينيّتها"، بحسب عبارته، حيث يعود إلى تسعينيات القرن الماضي مشيراً إلى معاناته كطالب في تلمّس مفاهيم السيميولوجيا بمرجعياتها في اللغتين الفرنسية والإنكليزية، دون أن ينفي ذلك انطواء هذا الجهد على "متعة لا تنفصل عن العناء والمكابدة" كما يقول. ويضيف: "قرّرتُ من البداية أن أشتغل على السيميائيات في أصولها"، وقد دفعه ذلك للاحتكاك بنظريّات المفكّر الأميركي تشارلز ساندرس بيرس.

يرى السيميائية الثقافية باعتبارها "تجسيراً للمعارف"

عن اختياره لبيرس بمرجعياته الفلسفية والمنطقية من البداية، على عكس المناخ البحثي الذي كانت تُروج فيه، حينها، السيميائيات السردية، يوضّح بريمي أنه حاول الخروج من الدراسات الأدبية التي ينهمك فيها معظم الباحثين، وقد كان من بداياته ميالاً إلى اللسانيات.

وحول علاقته اللاحقة كباحث في فكر بيرس، يشير إلى فضل من نقله إلى الفرنسية، جيرار دولودال، وخصوصاً إلى فضل السيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 - 2016)، فقد جعلا من المفكر الأميركي علَماً فكرياً بعد أن كان شبه مجهول بسبب عدم الاعتراف الأكاديمي به في بلاده.

ويرى الباحث المغربي، في ما يخصّ أهمية فهم بيرس، أن طروحات المفكر الأميركي تجعل من التأويل محور الحياة. يقول بريمي: "الإنسان يحيا بالتأويل، وكما كتب ذات يوم جورج لايكوف (الاستعارات التي نحيا بها)، يمكن أن نقول: بيرس الذي نحيا به، فمعه نفهم أن التأويل هو جوهر حضور الإنسان في العالم". ويشير إلى أنه "بالعودة إلى العربية، نجد أن كلمة التأويل تعود إلى فعل مصدريّ هو آل، وهي تعني في القواميس القديمة الرجوع بالشيء إلى أصله، فنحن حين نؤوّل نعود بالشيء إلى أصل".

المرجعية الثانية التي تحدّث عنها بريمي تتمثّل بالمفكّر الروسي يوري لوتمان. يشير الباحث المغربي إلى أن الذهاب إلى هذا المفكّر كان فرصة للتعرّف على طروحاتٍ غير تلك التي تأتينا من أوروبا وأميركا، بما في ذلك من إثراء لثقافتنا. وينبّه إلى أن الكثير من الأبحاث العربية في مجالات معرفية كثيرة قد اعتمدت على نظريات لوتمان دون الإشارة إليه كمرجع صريح.

هنا، يعرّج بريمي على مجموعة من المفاهيم التي طرحها لوتمان، وأبرزها "الكون السيميائي"، ومنه يقارب الثقافة باعتبارها نسقاً من العلامات، وبأنها لا تكون ثقافة إلّا إذا أوجدت لنفسها نموذجاً يميّزها عن الثقافات الأخرى، وما هذا النموذج إلا مجموعة من العلامات الدالة عليها.

على مستوى آخر، يؤكّد بريمي على أهمية السيميائية الثقافية من منطلق أنها "تجسير للمعارف"، ويضعها "في إطار المشاريع البينية"، حيث إن هذا المجال "يرفض قطعاً كل فصل بين التخصّصات وبين العلوم"، كما يقول.

يتوقّف الباحث المغربي لدى إشكاليةٍ تتعلّق بالسيميائيات سبق أن أثارها أمبرتو إيكو، الذي كان يرى أن هذ الحقل المعرفي يعيش وضعاً قلقاً لأنه يشتغل على كل شيء. وكان المفكر الإيطالي قد اهتدى، عبر العودة إلى الأصول الإغريقية للسيميائية، إلى أن هذا المجال يتفرّع إلى سيميائيات عامة، وهي أقرب إلى نسق فلسفي، وسيميائيات خاصة مرتبطة بالمجال التطبيقي؛ وهنا توجد سيميائية خاصة بكل مجال (المسرح، الشعر، الصورة...)، ولكلٍّ منها خصائصها وأنساقها.

يرى بريمي أن "السيميائيات لا ينبغي لها أن تكتفي بوصف الأشياء، بل إنّ من شروط تحقّقها أن تبني خطاباً نقدياً حولها"، ويضرب مثلاً بالصورة الإشهارية التي يمكن لعلم العلامات أن يفكّك مقولاتها ويفهم كيفية تأثيرها في الناس، لينتهي إلى القول بأن "السيميائية تجدّد نفسها بممارسة النقد على نفسها".

المساهمون