تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. تصادف اليوم، العاشر من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد الكاتب والناقد المغربي عبد الفتّاح كيليطو (1945).
يمكن إدراك تعريفٍ للنصِّ الأدبي: إنّه ما لا يفتأ يُعالَج. وتاريخ الأدب، عند عبد الفتاح كيليطو (1945) ــ الذي تصادف اليوم ذكرى ميلاده ــ تاريخُ مراجعةٍ متواصلة. عندما يعيد كيليطو قراءة كتاباته، تبدو حالة المرض هي الأصل، والعافية مجرّد فرع. يتعيّن، إذاً، علاج النصوص مع اليقين بأنّ لا نهاية لهذا العلاج. كيليطو كاتبٌ يقرّ بأنه يرتعب من إعادة قراءة ما كتبه؛ وأحياناً، حين يطالعه، يرتجّ قائلاً في نفسه: "هل أنا مؤلّف هذا النص؟". وهو أيضاً القائل: "ينبغي أن نتعلّم التخلّص من كتاباتنا".
يذكر كيليطو، في كتابه "مسار" (2014)، أنه كان يودّ أن يتبنّى قولاً يعود إلى أحد السياسيين الألمان، ويظنّه كونراد أديناور، الذي تساءل يوماً: "فيمَ أنا معنيٌّ بما قلته بالأمس؟". الحذف في الكتابة عند كيليطو ليس نقصاً، بل زيادة، إضافة. هو عملية بنّاءة وضرورية بالنسبة إليه. يرى بأنّ حياة الكتابة في إتلافها، وبأنّ الكتابة لا تكون إلّا بالمحو.
أعسر ما في الأدب هو الحديث عنه، وهذا ما يؤكّده الكاتب المغربي في عودته إلى الكتب ذاتها كلّما أحسّ بأنّه لم يفِ النصوص القديمة حقّها في الاشتغال. فما أغزر كنوز النقد الأدبي، وما أعظم بلاغة العصور الماضية، التي ينقل كتّابها المعرفةَ ويعتبرون النصَّ الذي لا يُعلِّم مؤلّفَه نصّاً هامشياً.
يرى كيليطو أنّه لا بدّ للباحث من الاطّلاع على الأدب الغربي لدراسة الأدب العربي. من موقعه الشخصيّ، لم ينتقل كيليطو من ثقافة إلى أخرى، إنّما كان مقيماً في أدبَيْن بالوقت نفسه. يكتب بلُغَتين، ولديه توجّهٌ مزدوج للبصر؛ بصرٌ يلتفت بالضرورة شرقاً عندما يكتب بالعربية، وغرباً، أو شمالا، إن كتبَ بالفرنسية.
ما يحفّزه على الكتابة إظهارُ الامتنان تجاه أعمال أبهرته
في آخر كتبه صدوراً، "في جوّ من الندم الفكري" (2020)، يقول كيليطو:"إن البحث الأدبي، والقراءة بشكل شامل، تغدو عملية تعديل مستمرة، فمن أجل الامتثال للنموذج الأجنبي نقوم تلقائياً، وبحسن نية، بتقطيع النصوص أو تمديدها حسب الحالات".
يعتبر كيليطو دراسة نصّ أدبي مغامرةً، لأنّ الدارس يعرف من أين يبدأ، لكنّه لا يعرف أين ستقوده خطاه؛ كما أنّه يعتقد أنّه تستحيل دراسة الأدب مفصولاً عن دراسة الغرابة، فأحياناً يكون المألوف جدّاً هو سرّ الغرابة. عدا أنّ على الناقد أن يبتعد أحياناً عن الأدب من أجل الاقتراب منه وتناوله بصفة عميقة. ولا يمكنه أن يدرس التراث إذا لم يكن ملمّاً بالأدب الحديث، والعكس صحيح. ذلك أنّ الأدب يُدرَس في ضوء الأدب، وقد يُدرَس في ضوء علومٍ أخرى. يقول كيليطو إنه تعلَّم بفضل رولان بارت أنّ الأدب الخالص لا وجود له، وأنّ تحليل نصٍّ أدبي يقتضي معرفة الأبحاث الحديثة في مجالات أخرى. ويقول أيضاً إنّ مَن يكتب نصّاً أدبياً يَخضع لأنساق ثقافية وجمالية وإيديولوجية محدّدة، وقد لا يعي خضوعَه لها.
يذكر المؤلّف المغربي أن الكتابة تفصله بشكلٍ ما عن ذاته. فهو يكتب ليتكلّم عن الكتب التي دمغته بأثَرٍ لا يزول. ما يحفّزه على الكتابة هو إظهار الامتنان تجاه الكتب التي أبهرته. الكتابة عنده نبرةٌ، أسلوبٌ يحاول أن ينشئه، وأن يحافظ عليه، وأن يصونه. يقول إنّ المطلوب من الناقد أن يُباغِت ويزعج، كما يجب أن يكون شعار كلّ كاتب: "اجعلْ من نفسك بحيث لا يعوّضك أحد". وإذا كان من اللاّزم تشبيهه بكاتب، فهو لا يرى أفضل من الفرنسي مونتاين (1533 ــ 1592) الذي كان يكتب، على حدّ قوله، "بالقفز والوثب".
القراءة عند كيليطو هي إعادة قراءة، تلك التي تفترض مساراً مشتركاً، حركةً وتآزراً وتضامناً مع قرّاء نُعاشرهم أو مع كائنات نحبّها. فعندما يفتح القارئ كتاباً، لا بدّ من التوجه إليه بكلّ كيانه، بمقروئه، بزمنه وثقافة عصره. والقارئ عند كيليطو هو مَن يخلق شروط الأدب، كما أنّ على الكتّاب أن يخترعوا قرّاءهم.
أحبَّ كيليطو قراءة الجاحظ، ذاك الناثر الاستثنائي، المتحمّس للاختلاق وللخطاب المنحول؛ وهو مؤلّفٌ يُمتعه، فيعيد كيليطو قراءته وبطريقة متقطّعة. ولأنّ الجاحظ يقول إنّ على الكاتب أن يعتبر الناس، كلّ الناس، أعداءً له، ويوصي الرجلَ (العاقل) ألاّ ينسى أبدا بأّنّ القارئ عدوٌّ، فإن كيليطو يتساءل: "ماذا كنّا سنكون، أفراداً وجماعات، من دون خصومنا؟". كما يرى في تعجّب بيترارك ــ الذي لم يكن يحب العرب: "عجباً، بعدَ العرب لا يجوز أن يكتب أحد!" ــ أنه قد منح العرب من خلال هذا التعجّب تقديراً كبيراً.
وجد كيليطو في كتابات أبي العلاء المعرّي، الشاعر العظيم الأعمى، خلفيةً ثقافية فلسفية واضحة، ممزوجة بفنّ سخريةٍ فريد. فقراءة المعري ــ الذي كان يُعاب عليه أنه صاحب فكر حر ــ عبارةٌ عن سَيْر في متاهة.
نقرأ في كتاب "كيليطو موضعَ أسئلة" (2017) لأمينة عاشور، فيما يتعلق بنقل عشق الأدب إلى طلبته في الجامعة، إدراك كيليطو أنّه، لكي لا يبتعد المرء عن الصواب، ينبغي أن يظل متواضعاً، وألّا يعقّد الأمور، فالمهمّ هو مقاربة العمل الأدبي بلَباقة؛ وذلك بأن يجعل نفسه في خدمة العمل، وأن يجرّب مع الطلبة اللّعب بأوراقَ وفرضياتٍ متعدّدة للتأويل. ويذكر قولاً لمالارميه: "لن تمحوَ رميةُ النرد الصدفةَ أبداً"، ومقولةً لغوته في "فاوست": "أنا من الشيخوخة بحيث لا يمكنني أن أقتصر على اللعب، ومن الصغر بحيث لا يمكنني أن أظلّ بلا رغبات".
لا تكون الكتابة إلّا بالمحو، وكأنّ حياتها في إتلافها
لم يكن اكتشاف الأدب، عند كيليطو، منفصلاً عن الصور. ففي كتابه "خصومة الصور" (2005)، عمد إلى التقاط الصور الهاربة، مكوّناً مجموعة قصصية بينها صِلات عديدة ذات طابع سردي وموضوعاتي، تسمح للقارئ بقراءة المجموع كرواية. ويوضح كيليطو بأنّه يتعين البحث عن نوع يمكّن من قراءة النصوص بشكل مستقل ويحافظ، في الوقت نفسه، على خيط ناظم فيما بينها. ففي الرواية نبذل المجهود دفعةً واحدة، وعندما يتعلّق الأمر بمجموعة قصصية، ينبعث القلق عند بداية كل قصة. إنّه فنّ الحديث عن الذات عبْرَ الآخرين؛ فنّ يفتح أمام القارئ مجالاً للتساؤل إذا كانت الشخوص مواكِبةً للواقع، أم أنها، على العكس، تُهلوس وتسبح في الخيالات.
وهذا ما تكشفه أجوبة كيليطو في كتابه "مسار"، الذي يقول فيه أيضاً: "المؤلّف غائب فيما يكتب كشخص، وحاضرٌ كصورة، وهذه الصورة تكاد تكون بلا علاقة مع المؤلّف الواقعي. ولذلك نجد مَن يعتبر المؤلّف كالطائر المُعِيدِي، يجب أن يَسمع به ولا يراه".
في الكتاب نفسه، يذكر كيليطو أنّ مِن أحبِّ كُتبه إلى نفسه كتاب "الكتابة والتناسخ" (1985). ومن صفحات هذا الأخير نقرأ: "لقد كانت القطَع المزيّفة التي تُروَّج في واضحة النهار تُطابق أشدّ المطابقة تلك التي صنعها الصيارفة الذين رخّصتهم المؤسّسة، إلى حدّ أن التمييز بينهما كان متعذّراً... للوقوف دون هذا المدّ وهذه الفوضى، يلزم تطهير السوق وتخليصه من القطَع المزيّفة، مع الحفاظ على القطع الجيّدة وحدها".
تأثّر كيليطو بعنوان "قلبي وقد غدا عارياً" لشارل بودلير، فقال: "هذه الصورة ربما هي الكتابة"...
* كاتبة وصحافية من المغرب