مما شغل العصابات الصهيونية خلال وبعد تهجير الفلسطينيين عام 1948، السطوُ على المكتبات العامة ومنازل المثقفين، ومراكز الصحافة المطبوعة وأرشيفها، وتركز ذلك في يافا وحيفا، والأحياء الغربية من مدينة القدس التي استولت العصابات الصهيونية فيها على مكتبة الأديب خليل السكاكيني مما استولت عليه.
كانت "مطبعة لورنس" في مدينة القدس المحتلة، من بين المراكز القليلة التي نجت من هذا السطو، وظلّت محتفظة بمقتنياتها وأرشيفها المتراكم منذ فترة تأسيسها في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، إلى أن وُهبت مؤخراً لـ "متحف التراث الفلسطيني" في مؤسسة "دار الطفل العربي" بالقدس.
ينظّم المتحف حالياً بالتعاون مع "دار الطفل العربي" معرضاً بعنوان "طُبِع في القدس.. مُستَملون جُدد"، يستعرض حوالي 200 من الكليشيهات والمطبوعات التي منحتها مطبعة لورنس. ويتوسّع المعرض أكثر بتتبّع تاريخ الصحافة في القدس، ورصد طبيعة التفاعل بين أهل المدينة والمطبوعات مختلفة التوجّه والاختصاص.
ويركز المعرض على فكرة "المُسْتملي" وهي مهمة كان يقوم بها قارئ مخطوطة الكتب الأصلية ومُمْليها على النساخين، والذي كان وسيطاً بين المؤلف وجمهور قرّائهِ، وكان يتجاوزه أحياناً بفرض رقابته على المحتوى المكتوب. ومع ظهور الطابعة، اختفى مُسمّى "المُسْتملي" وأصبح يقوم بدوره الرمزي، إما رئيس تحرير المنشور والمطبعة، أو صاحب رأس المال الداعم.
سطت الرقابة العسكرية "الإسرائيلية" على دور المُسْتملي
وفي فلسطين، غالباً ما سطت الرقابة العسكرية "الإسرائيلية" على هذا الدَور، لتمارس "الاستملاء" بمعنى الرقابة، وأحياناً الحظر. وهذا ما أظهره المعرض من خلال صور مُكبّرة للصفحة الرئيسية من جريدتَي "الفجر" و"الشعب" معروضتين على طول الحائط، وتظهر فيه بعض الأعمدة الفارغة، مكتوب وسطها "نعتذر لعدم وجودها"، وفي هذه الحالة يكون "الرقيب العسكري" قد اطلع على الموضوع قبل النشر وأمر بحظره. ويخصّص المعرض في هذه الزاوية مساحة بيضاء وقلماً، ليكتب الزوّار ما يخطر ببالهم عن المساحة الممنوعة في الجريدة.
وفي زاوية أخرى، تبدو منشورات مطبوعة لبيانات "منظمة التحرير" متصلة ببعضها على شكل أشرطة طويلة، وكأنها ما زالت تخرج من الطابعة دون انقطاع. وفي هذا السياق، انشغل المتحف على مدوّنة صوتية بعنوان "نداء.. نداء.. نداء" على منصة "ساوندكلاود"، لمن عايشوا توزيع مناشير وبيانات انتفاضة الحجارة (1987)، الذين كانوا يُلاحَقون من قِبل الاحتلال.
ومع تغيّر شكل المحتوى ومساحة النشر، في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، يهدف المعرض إلى الخروج بتساؤل "مَن هم المُسْتملون الجدد؟"، بحسب المشرف على المعرض عبد الرحمن شبانة في حديثه لـ"العربي الجديد".
تترك المطبوعات المعروضة شعوراً بالمفارقة بين الأمس والحاضر، فظهرت العناوين مشابهة لما يُنشر في أيامنا من أخبار، وفي حين يبيّن بعضها طبيعة الوضع السياسي الفلسطيني في الثمانينيات، مثل عنوان في جريدة الشعب: "منظمة التحرير تقوم ببناء سلاح جوي مستقل"، بالإضافة إلى دور النساء الفاعل ومشاركتهن في العمل والسياسة.
وقدّمت بعض الصور قراءة صريحة للواقع الفلسطيني الذي يتحكم فيه رأس المال بالثورة دون قصد، مثل غلاف مجلة "العودة" عام (1983)، والذي بدا متناقضاً للوهلة الأولى لتضمّنه عناوين تتحدث عن الثورة وصورة لياسر عرفات، وفي النصف الآخر من الغلاف ذاته صورة لمشروبات غازية مع شعار "تحبّها تحبّك".
يقدّم المعرض إرثاً ثقافياً ملموساً، وأرشيفاً واسعاً يُمكن البناء عليه لإجراء البحوث المتعلقة بموقع مدينة القدس المركزي في مجال طباعة وتطوير المواد التعليمية من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة حياتها الثقافية مثلما أظهرته نسخة لمخطوطة "ما تيسّر" للأديب خليل السكاكيني، وحياة أهلها الاجتماعية، بالإضافة إلى استعراض نشاطها الاقتصادي والتجاري.
تقول مديرة المتحف عادلة العايدي في حديث لـ "العربي الجديد"، إن "المتحف الفلسطيني" يسعى من خلال معارض مثل "طُبع في القدس" إلى تمكين الإنسان الفلسطيني من شرح هويته وأساسات كينونته، ليكون الناس قادرين على مواجهة واقع الاحتلال الإسرائيلي.
يتيح "المتحف الفلسطيني" إمكانية زيارة المعرض هذه الأيام مع اتخاذ إجراءات الوقاية من "كورونا"، بعد إغلاقه لمدة شهرين منذ افتتاحه بتاريخ 17 تموز/ يوليو، واقتصاره على الأنشطة والفعاليات الرقمية. ويستمر المعرض حتى كانون الأول/ ديسمبر من نهاية هذا العام.