طوفان الترجمة

04 يوليو 2024
"يا ضمير العالم أين الضمير" للفنان الليبي علي عمر ارميص
+ الخط -

حضرت الكتابة في حياة الإنسان دوماً، منذ أن اخترعها وسيلة للتواصل، تُمكِّنه من إيصال رسائله المختلفة إلى متلقٍّ بعينه، أو إلى قُراء مُعيّنين، وتُيسِّر له التعبير عمّا يجول في خاطره، بِحُكم أنّها تترك له أن يختار إمّا أن يحتفظ بنصوصه لنفسه، وإمّا أن يَتقاسَمها مع آخرين. 

ويُطلعُنا تاريخ الترجمة أنَّ الأخيرة لم تكن بمعزل عن حال الكتابة قطّ، بصفتها إعادة كتابة لنصوصِ ألسنةٍ وثقافات أُخرى، من خلال إحلالها ضيفةً على ألسنة وثقافات غريبة، بل إنّه يُثبت لنا أنّها كانت شريكة لها في مَسِيرها التنويري والقيادي والتحرُّري، وفي الانخراط في مشروع ربّما يكون أوسع، نظراً إلى استهدافها جمهوراً أكثر، لأنّها أحياناً قد تجعل قُرّاءها يُعَدّون بالملايين، فتُدخِل إليهم رؤى جديدة وغير متوَقَّعة، قد تجعلهم يُغيِّرون اقتناعاتهم ومواقفَهم.

ولا يخفى أنّ المتتبّعَ لوقائع "طوفان الأقصى" يقف على الحيف الوحشي الذي يُنزلِه الكيانُ الإسرائيلي الغاصبُ بالمواطنين الفلسطينيّين العُزَّل والمُضطهَدين فوق أراضيهم، مُستخدِماً جنوده ومستوطنيه ورعاته وترسانته الإعلامية الجبّارة، ومع ذلك فهو يجد نفسه في الفضاء الإعلامي مُحبَطاً أمام سيل هائل من الخطابات، التي تُقدَّم في حوامل متنوعة هي مقالات في صحف، ومجلات، وكُتُب كلّها ورقية، ولها نظائر رقمية أيضاً، وفي شرائط فيديو قصيرة، أو في صُوَر تحمل تعليقاً، أو في مناظرات تلفزيونية، أو في لقاءات، أو في تظاهرات تضامنية، أو في حوارات مع الضحايا المُصابين أو أهاليهم، إلخ.

وتُفصح جميعُ تلك الوسائط عن موقفَين متناقضَين، تَصدُران عن فريقَين متعارِضَين هُما: أنصارُ القضية الفلسطينية المؤمنون بحقّ الشعب الفلسطيني في العيش الكريم حُرّاً داخل وطنه المُغتصَب حاليّاً، وهُم الأكثرية، وأنصار تأييد الاحتلال من الصهاينة والدول التوسعية المكرِّسة للاستعمار، وهُم الأقلّية.

جهد جماعي اجترأ على الاشتغال به متطوِّعون كثيرون

ومثلما أنّ الكتابة وباقي الخطابات عرفت ازدهاراً لافتاً منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، بحيث يكون بوسعنا الحديث عن طوفان للخطابات بأشكالها المتنوّعة التي تعالج ظاهرة من ظواهر هذا الحدث الذي فاجأ المغتصِب، وأذلّه بوسائل مقاومة بسيطة وبإرادة صلبة، حطّمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، كذلك ينبغي لنا أن ننوِّه بالاستراتيجية المتميّزة والفاعلة والتطوُّعية التلقائية، التي خاضتها الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم في أميركا اللاتينية وبعض البلدان الأوروبية، وحتّى في قلب الولايات المتحدة الأميركية، والتي لم تكتفِ بالتظاهر والاحتجاج، بل راهنت على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، لفضح جرائم المُحتلّ، وروّجت لخطابات بالصورة والكلمة، حرِصتْ فيها على تفنيد خطابات المُغتصِب لأرض فلسطين. 

هكذا قدّمت للغربي تَرْسَطةً (ترجمة سطرية) في التلفزيون والفيديوهات والبودكاستات وغيرِها لما يقوله العربيّ وأحرار العالَم، حتى يستوعبَ حقيقة الوضع من جهة، ولكي يكتشف حقيقة الإسرائيلي الذي يعتمد التضليل والأكاذيب في تقديمه لنفسه بصفته ضحيّة وسط مُحيط مُعادٍ، وفي الترويج لصورة مُستهلكة عن العربي المُسلم بصفته "إرهابياً عنيفاً يُعادي الساميِّين".

وبهذه الصورة تقدَّمت الترجمة في سياق "طوفان الأقصى" باعتبارها ترجمة فاضحة ومُصحِّحة، لها حضورها القوي والجارف في وسائل التواصل، ولا تفتأ بإلحاحها على مواكبة كلّ حدث أو إصدارٍ مهما كان حامله، تُؤثّر تأثيراً قويّاً في صناعة رأي عامّ عالمي ذي صدقية، يخترق القِلاع الأكاديمية، ويربح فئات عمرية شابّة ومناضلة، تَرفُض الانصياع للآلة الإعلامية الصهيونية.

ولا غرو أنّ "طوفان الترجمة" هذا ليس عملَ مترجِمين مُحترفين وحدَهم، وما كان له أن يكتسب هذه القوة التأثيرية الساحقة لو أنهم وحدَهم أسهموا فيه، بل هو نتيجة جهد جماعي اجترأ على الاشتغال به متطوِّعون كثيرون، في تخصصات مختلفة، الشيء الذي يُرسِّخ لدينا أنّ الترجمة قضية وعي اجتماعي وإعلامي عالَمي في سياق تاريخي، قد تكون الدُّوَل هي المؤسِّسة له. 

لقد تأكّد لنا بالملموس، في حال "طوفان الأقصى"، أنّ الترجمة قضيّة وجودية واجتماعية في الوقت ذاته، ولذلك انخرطت فيها أطياف ثقافية واجتماعية وعرقية متعدّدة ومتنوّعة، وبذلك كان لها هذا الوقع المُبارَك على الرأي العام العالمي.

* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون