صباح فخري.. أكثر من صورةٍ واحدة

05 نوفمبر 2021
+ الخط -

لا بدّ أن صباح فخري كان في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من عمره في تلك الحفلة. يُفتَتح المقطع المصوّر على ضجيج قاعة ممتلئة بالشباب والشابات الأنيقين، يتقدّمهم صفٌّ من الضبّاط. من الاستوديو، يتلو معلّقٌ خطاباً طنّاناً: نحن الثورة، نحن الأمل، نحن الاشتراكية، نحن النور، نحن الأخلاق، نحن المنطلَق، التحرُّر، الإباء، الكبرياء، نحن الذين هزمنا الاستعمار وأعوانه وزبانيته... ليس الأمر بحاجة إلى كثيرِ تفكيرٍ لنعرف أننا في زمن الوحدة بين سورية ومصر، أو ربما سنةً أو اثنتين بعد انتهائها (1958 ــ 1961). لكننا لا نعرف مكان السهرة: حلب، دمشق، القاهرة أو مكانٌ آخر؟ لحظات وتأتي مقدّمة الأمسية لتُعلن اسم المغنّي: "المطرب الكبير، صاحب القدود الحلبية، صباح فخري".

يدخل المغنّي الحلبيّ على إيقاع من التصفيق الحماسيّ ومن مقدّمة "أيّها الساقي"، التي تؤدّيها، وراءه، فرقةٌ يحلم بها أيّ مغنٍّ شاب: سبعة عازفي كمان على الأقلّ (ممّا يمكن رؤيته في الفيديو)، وكورال من أربعة، وعازف قانون من طراز رفيع، وآلات وترية أخرى وإيقاعية. يقدّم صباح فخري مجموعةً من الموشّحات والليالي والمواويل والقصائد والقدود، يبدأها بوصلةٍ على الهُزام: "أيها الساقي"، "جادك الغيث"، "يا غُصن نقا". ولا يكاد يُنهي قصيدته الثالثة حتى تتصاعد أصواتٌ في الصالة مطالبةً بـ"قُل للمليحة" ــ تلك القصيدة التي لم يُعرَف بتأديتها فحسب، بل هو مَن وضع لحنها. طلبٌ لا يردّه الشاب ذو القسمات الجادّة التي تُفلت منها، بين حين وآخر، ابتسامةُ رضا.

يمكن القول، في أحد المعاني، إنّ صورة صباح فخري، كما سيعرفها الناس حتى رحيله عن عالمنا يوم الثلاثاء، 2 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري (1933 ـ 2021)، حاضرةٌ بأغلب تفاصيلها في هذه الأمسية البعيدة ستّين عاماً من اليوم تقريباً. فالصوت نفسُه هنا، واللون الغنائي، والصرامة على المسرح، والاعتراف بـ"مطرب كبير" ــ رغم أنه ما يزال في الثلاثينيات من العمر ــ، بل وتلهُّف الجمهور إلى سماع قصيدة غزَلٍ فصّلَها على مقاسات صوته العُليا والدُّنيا.

تلقّف التلحين والغناء من شيوح الطرب الحلبي وسعى لتجاوزهم

هل يعني هذا أن صاحب "اللؤلؤ المنضود" سيكرّر نفسه خلال عقود؟ ليس تماماً، أو ليس بالضرورة. فرغم تثبيت فخري، مبكّراً، لخريطته الغنائية والموسيقية بين هذه الحدود، حدود الموشّح والقصيدة والقدّ والموّال، إلّا أنه، كما يقول هو، لم يكفّ عن "الاجتهاد" يوماً، بل ظلّ يُحسّن ويصقل في مادّته الأولى، مغيّراً في الأداء هنا، أو مبدلّاً بالتوزيع أو حتى المقام في هذا المقطع أو ذاك. تماماً كما فعل مع "التراث" الموسيقي والغنائي، الحلبي أو العربي، الذي مثّل، بالنسبة إليه، مادّةً لا يمكن حِفظها إلّا من خلال تحديثها، عصرنتها، على حدّ تعبيره، مع تجنُّب المساس بهيكلها الأساسيّ.

توحي هذه القراءة، وكذلك الطريقة التي يُقدّم من خلالها صباح فخري نفسَه، إنْ كان في مقابلاته أو في الكُتب السيَرية التي صدرت عنه، توحيان بأنّ المغنّي الحلبي وُلد دفعةً واحدة. فهو موصوفٌ بالكبير، والقدود الحلبية تُحال إلى اسمه، منذ شبابه الأوّل. بل إنّ بعض الروايات عن بداياته، التي يقصّها هو نفسه، تُريد لهذه المقولة، أو الأسطورة، أن تكون حقيقةً ملموسةً منذ تفتّح عينيه على الحياة. ألم يذكر صباح، أكثر من مرّة، أن تَفرُّد صوته اكتُشف منذ ولادته، أو في شهور رضاعته الأولى، حين كان يبكي، وأنّ أحداً من أقاربه كان يحبّذ إزعاجه طفلاً كي يدفعه إلى الصراخ ومن ثمّ إلى سماع صوته؟

لا يمكن لهذه الأسطورة أن تكون صحيحةً إلّا ضمن هذه القراءة، أي ضمن الصورة شبه الوحيدة التي عُرف بها وثبت فيها صباح فخري أو أَحَبّ له الجمهور، ومعه الظروف والفاعلون الثقافيون أو حتى السياسيون، أن يثبت فيها. لكنّها قراءةٌ أقلّ ما يُقال فيها إنها تختصر مسيرةً أوسع، كما أنها تنزع التاريخ، بوصفه تمرحُلاً وأحداثاً وتقلُّباتٍ، من تجربةٍ ليست إلّا ثمرة لهذا التمرحُل.

يعني هذا، بعبارة أُخرى، أن هنالك أكثر من صورة لصباح فخري. ينطبق هذا أوّلاً على اسمه، وهو الذي حمل بعد الولادة اسم صباح الدين أبو قوس، قبل أن ينُادى، صبيّاً، بمحمّد صباح، ويَثبت، بعد ذلك، على الاسم الذي يبدو أن رجُل الدولة السوري، فخري البارودي (1887 ــ 1966)، قد اختاره له. كما أننا نعثر على تعَدُّد حيوات صباح في معاصرته لثلاث، بل أربع سوريّات مختلفات: الجمهورية السورية الأولى، في سنوات الاحتلال الفرنسي؛ والجمهورية نفسها بعد رحيل الفرنسيين وبدء مرحلة الانقلابات؛ ثم الجمهورية العربية المتّحدة، ومن بعدها سورية البعث والنظام الأسدي. هل كان صباح فخري واحداً، في شبابه، تحت هذه المسمّيات وأنظمة الحكم المختلفة؟ تتطلّب الإجابة بحثاً مطوّلاً يتجاوز حدود الورقة الصحافية. الأغلب، على أيّ حال، أنّ صاحب "خمرة الحبّ" لم يولَد دفعةً واحدة.

فالفتى المولود في عائلة محافظة، لأبٍ متزوّج من أربع نساء ولديه العديد من الأولاد، كان في طريقه إلى مسيرة تقليدية، تبدأ بالكتّاب ودراسة الدين ومبادئ اللغة وتمرّ بالخدمة العسكرية والزواج، ثم الاعتناء بعائلةٍ كربٍّ لها. لكنّ الصُّدف، وتدخُّل أمّه كما يبدو، سيحيدانه عن هذا الدرب، من دون أن يُبعداه تماماً عنه. هكذا، سيمكن لابن الشيخ أن يغنّي لنساءٍ ويتعلّم منهنّ الغناء، لكن من دون التخلّي عن الذهاب إلى زوايا المتصوّفين، حيث تُراوح الأجواء بين غناء وإنشاد، بين قصائد تمزج الخمرة والحبّ الإلهيّين بالخمرة والحبّ الأرضيَّيْن. والأهمّ أن هذا المزيج من تقليديةٍ وانفتاح جزئيّ سيتيح لصباح اكتشاف نفسه كإمكانية غنائية ولحنية، بما أنه سيعرّفه إلى عالم السهرات الطربية والجلسات الموسيقية بنسختها الحلبية في ذلك الوقت (وحتى اليوم؟)، التي تمزج بين الشعبي والديني من ناحية، والتعلُّق بالتلحين والغناء على الرغم من اعتبارهما في بعض الأحيان "حراماً" و"عيباً"، من ناحية أُخرى.

ربما لا يعرف الجمهور الواسع من تجربته إلّا جانباً واحداً

في عالم السهرات ذاك، تعرّف الفتى إلى أسماء سيتلقّف منها الصنعة والرؤية. الحديث هنا، بشكلٍ أساسي، عن شيخَي الطرب الحلبي في عصره، وحتى اليوم: عمر البطش (1885 ــ 1950) وبكري الكردي (1909 ــ 1978). لن يأخذ منهما ألحاناً لأغانٍ سيؤدّيها أو مبادئ التلحين فقط، بل، قبل أيّ شيء، فهماً ولوناً موسيقياً خاصّاً. هذا الفهم الذي يحاول أن يحفر في القصيدة (وهي في الغالب من الشعر العربي القديم، أو الحديث التقليدي) ليجد اللحن الماكث فيها ضمنياً، بحيث يترقرق صوت الآلات كالماء على منحنيات النصّ. ستكون هذه الرؤية، لسنوات، المعجم الأساسي لدى صباح فخري. لكنّه معجمٌ سينحسر، مع الوقت، ليصبح من شأن الموشّحات فحسب.

فالشاب الطموح، مثله كمثل مُجايله، الحلبيّ الآخر، الراحل مبكّراً، محمد خيري (1935 ــ 1981)، كان يتطلّع أبعد من حلقات الذِّكر وسهرات الطرب المنغلقة على نفسها، والمسوّرة بما تمنعه التقاليد الشعبية والدينية من ترنيم وغناء ومخالطة وسفَر وظهور على التلفاز ــ أي ما تجلبه "حياة النجومية"، كما يُقال. مرّة أخرى، لم يُرِد صباح فخري أن يكون شيخاً ـ مغنّياً وملحّناً، محصورَ الأفق بمدينته وبأبنائها "السمّيعة"، كما هو حال معلّمي الطرب الحلبيّين من المذكورين أعلاه، أو مثل صبري مدلّل وحسن حفار، اللذين حافظا، حتى رحيلهما، على الإنشاد. كان صباح يريد الذهاب أبعد، إذاً؛ إلى العاصمة، إلى العواصم الأخرى، إلى الإذاعات، والحفلات، والمسارح، واللقاءات، والسهرات التي لا يتشكّل حضورها من خمسة أو ستّة شباب ومسنّين يغنّون ويعزفون حول كؤوس شاي وفناجين قهوة. أو لنقلْ، بعبارة مختلفة، إن صباح، مثل محمّد خيري، أراد أن يكون الغناء والتلحين مهنةً له، لا هوايةً أو شغفاً فحسب. وهو خيارٌ سيدافع عنه، فيما بعد، عندما ستوكَل إليه "مناصب" إدارية، تحت سلطة حافظ الأسد، إن كان في النقابات والمهرجانات الفنية أو في ما يُعرَف بـ"مجلس الشعب". 

هل هذا الطموح، والنظر أبعد من المحيط الشعبي، هو السبب في التوجّه أكثر وأكثر إلى الأغاني الأقلّ ثِقَلاً موسيقياً وكلامياً من الموشّحات (من دون التخلّي عن هذه الأخيرة)، إلى قصائد الغزَل المباشر وغير المباشر، وإلى التراث الشعبي المعاصر؟ قد لا تكون هناك علاقة سببية بين الأمرين، لكنّه يبقى ملحوظاً أن هنالك تزامناً، في مسيرة صباح فخري، بين خروجه من دائرة شيوخ الطرب إلى فضاءات أُخرى وجمهورٍ آخر، وبين زيادة اشتغاله على ألوان غنائية مختلفة.

والملحوظ أيضاً أن اشتغالات صباح التي تحضر فيها بصمة معلّميه الأوّلَيْن، إمّا تلحيناً أو تأثُّراً بنظرتهما الموسيقية، هي الأقل شهرةً بين الناس اليوم. هل يخطر المغنّي الحلبي في بال أحدٍ عندما نذكر "انتهينا" (تلحينه)، و"في خاطري" (تلحينه)، و"غاب حبّي عن عيوني" و"داعي الهوى" (تلحين عمر البطش)، و"هذه العَبرة" (تلحين بكري الكردي)؟ نفترض أنّ ذلك لا يحدث إلّا في بال قِلّةٍ من الذين كانوا من سمّيعته. سيكون الجواب نفسَه لو سألنا إن كان أحدٌ يتذكّر أداءه لدَوْر "القلب مالْ للجَمالْ"، الذي وضع لحنه الشيخ بكري الكردي وكان صباح مِن أوائل مَن أدّوه من بعد، لمرّات، وكانت تلك من المرّات القليلة التي بدا فيها مُسلطناً تماماً ومأخوذاً بما يغنّيه. 

لا يمكن الجزم بالسبب الذي يقف وراء غياب، أو قِلّة شهرة هذه الصورة الأخرى من تجربة صباح فخري، وإن كان ممكناً استحضار بعض العوامل التي قد تلعب دوراً في ذلك، والتي ترمي إلى فهم سوسيولوجيا التلقّي التي حكمت وصول عمله إلى الجمهور. هل كان أداء دَوْرٍ متطلِّبٍ سماعياً، يستمرّ 20 دقيقة، مثل "القلب مالْ للجَمالْ"، أمراً مُتَجاوَزاً في الستينيات والسبعينيات، وقتَ صعود نجم صباح فخري، ومرتبطاً بجيلٍ وجمهور قديمَيْن، بما يصعّب تقبُّله في حفلات وسهرات متلفزة مثلاً؟

قد يكون هذا صحيحاً إذا ما تذكّرنا شُهرة موشّحات مقتضبة تنتمي إلى هذا اللون، بما يتيح أداءها ضمن وصلةٍ أوسع، كما هو حال "يمرّ عُجباً" (عمر البطش). الحاجة إلى تطعيم القديم بالجديد قد تكون سبباً محتملاً آخر، لا يمكن فصله عن هذا الأوّل. فالطرب وحدُه ليس ما يبحث عنه كلّ الجمهور المعاصر لصعود صباح فخري، وهو جمهورٌ، كما يبدو، يتقبّل السلطنة عندما تمهّد وتفتح، بالضرورة، على آفاق من الغزَل والحركة وحتى الرقص.

هذا، على أيّ حال، ما جرى عليه كثيرٌ من حفلات وأمسيات صباح، وكثير من المغنّين الحلبيين، حيث البداية بافتتاحيات من التوشيح ("يمرّ عُجباً" يرتبط بهذه الوظيفة في أذهان مستمعي الموسيقى الحلبية)، ثم الانتقال إلى وصلات من الألوان الشعبية: القدود والطقطوقات والمواويل والفولكلور. خلطةٌ قد تكون سبباً في أن جزءاً من تجربة المغنّي الراحل يغيب لدى الجمهور الواسع، لكنْ لولاها لما عرفنا الموشّحات، مثلاً، على النحو الذي نعرفها من خلاله اليوم. ولولاها، ربّما، لما كان صباح فخري هو نفسه الذي عرفناه.

المساهمون