لطالما كانت المطاحن شكلاً مُهمّاً من أشكال الإنتاج ما قبل الصناعي؛ لارتباطها بالموارد الزراعية (الحبوب) من جهة، ولما يتأسَّس عليها من أطعمة وأغذية تدخل في نطاق الاستهلاك اليومي من جهة أخرى. وهذا ما دفع الإنسان إلى البحث عن تطوير آليّات الإنتاج، والسعي إلى الانتقال نحو طَوْرٍ تقنيّ جديد يُوفِّر الجهد والوقت، كما يحفظ الكمّية والنوعية.
والحال في فلسطين عبر التاريخ، بأنهارها ووديانها وأراضيها، مكَّن لهذه الصناعة بوصفها تراثاً قديماً، انبعثت منه مظاهر حضارية مختلفة، ساهمت بزيادة الاستقرار البشري في المنطقة. لكنّ دخول العالَم زمنَ الثورة الصناعية بقوّة، وتزامُن ذلك مع التنافُس الاستعماري بين الدول الأوروبية، أدّى إلى اختلاف النَّظَر إلى هذا التراث وانقلاب حاله.
"مطاحن فلسطين: حضارة سحقتها الثورة الصناعية"، عنوان الكتاب الصادر حديثاً، للباحث الفلسطيني شكري عرّاف (1931)، عن "منشورات رواق". تُعنى الدراسة بمطاحن الحبوب التي أُديرت بقوّة جريان المياه في أنهُر وأودية فلسطين، كما تتناول العمارة والتاريخ والتوزيع الجغرافي للمطاحن في البلاد خلال فترة الانتداب البريطاني (1920 - 1948).
يستكشف الباحث أيضاً أحد أنماط الإنتاج ما قبل الثورة الصناعية، عندما كان الناس يعتمدون على قوّة عضلاتهم، أو قوة حيواناتهم المُدجَّنة، وعلى طاقة المياه الجارية وطاقة الرياح، لتشغيل المعدّات والآلات لطَحْن القمح والشعير والذُّرة وقصب السكر وما شابه ذلك من مكوّنات الغذاء الرئيسية للسكان.
ومن خلال إجراء بحث تاريخي، بالإضافة إلى العمل الميداني، يُسجِّل الكِتاب أكثر من 450 طاحونةً تعمل بالفيضانات الموسمية، أو التدفُّق الدائم للمياه من الينابيع والأنهار في مُعظم أرجاء فلسطين. أمّا من الناحية التأريخية فيُرجع الباحث هذه الصناعة إلى عهد الرومان، كما يركّز على الفترة الذهبية لتطوُّر المطاحن العامِلة بطاقة المياه المُتدفِّقة، وخاصة الفترتين المملوكية والعُثمانية وحتى منتصف القرن العشرين، عندما حلّت المصانع التي تعمل بالوقود محلَّ القوى التقليدية والطبيعية.
الجدير بالذّكر أنّ لشكري عرّاف مجموعة مؤلّفات تدرس الجذور العربية في فلسطين، وتؤصِّل التاريخ والوجود الفلسطينييّن، منها: "الأرض، الإنسان والجهد: دراسة لحضارتنا المادّية على أرضنا" (1982)، و"مصادر الاقتصاد الفلسطيني من أقدم الفترات إلى العام 1948" (1997)، و"بدو مرج ابن عامر والجليلين بين الماضي والحاضر" (2001)، و"خانات فلسطين" (2017)، و"عسس السُّلطان وعيون الحكّام: الشرطة في فلسطين" (2019).