حظي جاك دريدا بمكانة مهمة في الثقافة الفرنسية والعالمية بفعل استخدامه التفكيك لفحص النماذج المفاهيمية التي استقر فيها المجتمع الغربي منذ بدايات الفلسفة اليونانية حتى يومنا هذا، بوصفها استراتيجية من المساءلة النقدية الموجهة حيال الافتراضات الميتافيزيقيّة والتناقضات الداخليّة في اللغة الفلسفيّة والأدبيّة.
نُشرت العديد من الكتب التي تناولت أفكار الفيلسوف الفرنسي وشخصيته، متتبّعة هويته المركّبة واشتباكاتها مع حياته، حيث طُرد من المدرسة وأسقطت منه الجنسية الفرنسية مع تولّي حكومة فيشي النازية الحكم، واتهم من قبل كثيرين بتأييده السياسات الألمانية في العهد النازي، وظل معادياً للهيمنة الأميركية حتى رحيله.
"حدثٌ، ربما: سيرة جاك دريدا" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للروائي الأسترالي المقيم في بريطانيا بيتر سالمون عن "منشورات فيروس"، وفيه يتناول الجدل بين الحياة والفلسفة في عوالم الفيلسوف القادم من الهوامش المستعمرة لأوروبا الإمبراطورية.
يرى المؤلّف أن صاحب "الكتابة والاختلاف" كان أحد أبرز المشاكسين في الحياة الثقافية الفرنسية، وكذلك في كافة أرجاء القارة العجوز، كما توضّح مواقفه الناقدة في قضايا ومسائل لم يكن المساس بها سهلاً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي سبّبت له مضايقات ومشاكل عدّة.
يتساءل سالمون في تقديمه: "من هو جاك دريدا؟ بالنسبة إلى البعض، هو منشئ فلسفة نسبية مسؤولة عن أزمة الحقيقة المعاصرة. بالنسبة إلى اليمين المتطرف، هو أحد مهندسي الماركسية الثقافية. وبالنسبة إلى نقاده الأكاديميين، فإنه اختصر الفلسفة الفرنسية إلى "أكثر من مجرد موضوع للسخرية". بالنسبة إلى معجبيه، فهو نجم فكري لموسيقى الروك تراوحت مجالاته في الأدب والسياسة واللغويات".
يقدّم الكتاب الفيلسوف الفرنسي باعتباره ذلك الشخص الذي أسيء فهمه، حيث لا يزال مفكراً إنسانياً راهناً في عصرنا الحالي، ويعود إلى مولده ونشأته في الجزائر العاصمة، حيث كان يشعر على الدوام باغتراباته. وبالرغم من جهوده الكبيرة، وجد صعوبة في ترسيخ نفسه في الوسط الفكري في باريس الستينيات.
يوضّح سالمون أن دريدا تمكّن في ظلّ هذه الظروف والعوامل أن يغير مجرى الفلسفة بأكملها منذ عام 1967 تحديداً، حين وضع الخطوط العريضة للمفاهيم المركزية للتفكيك، وعلى الفور، تأسّست سمعته كمفكر معقد ومربك، احتفى به البعض كما كرهه البعض الآخر، وكانت لديه مجموعة واسعة من الاهتمامات، والتي يناقشها الكتاب من خلال صلاته الحميمية مع العديد من الفلاسفة والكتّاب، من أمثال ألتوسير وفوكو ولاكان وجان جينيه وهيلين سيكسوس وجوليا كريستيفا.