سيد فارس.. منظور أنثروبولوجي للحركات الاجتماعية

28 مارس 2023
(مقطع من عمل للفنان المصري محمد عبلة)
+ الخط -

عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثًا كتاب "ثقافة الحركات الاجتماعية الجديدة: مقاربات أنثروبولوجية" لأستاذ الأنثروبولوجيا والباحث المصري سيد فارس.

يلفت الكتاب إلى أن الحركات الاجتماعية صارت جزءًا من الحياة المعاصرة في عدد من المجتمعات، ومصدرًا رئيسًا للتغيير السياسي والثقافي عالميًّا. ويشهد المجتمع المصري، منذ ثورة 25 يناير 2011، فترة من النشاط الاحتجاجي المتزايد؛ إذ تتّسع دوائر الاحتجاج، ثم تنحسر وتنتقل من المجال العام إلى المجال الرقمي، إذ قادت الحركات الاجتماعية الجديدة في مصر إلى تغيّرات مثيرة وفجائية؛ ما جعل من بحثها ومقاربتها (مصدرها، والمشاركون فيها، ونجاحاتها وإخفاقاتها) ضرورة ملحّة، خاصة بعد أن صار الارتياب السياسي، والاحتجاج، وفعل الاحتجاج الجمعي سمات بارزة تميز الحياة السياسية المصرية المعاصرة.

يتوخّى هذا الكتاب مدخلًا جديدًا في مقاربة الحركات الاجتماعية متمثّلًا في المدخل الأنثروبولوجي الثقافي الذي يسعى إلى درس الحركة الاجتماعية الجديدة دراسة كلية شاملة، مع التركيز على السياقات الماكرو- سياسية، والماكرو- اقتصادية. 

يدرس الكتاب الحركة الاجتماعية الجديدة دراسة كلية شاملة، مع التركيز على السياقات الماكرو-سياسية والماكرو-اقتصادية

ويحقّق تسليط المقاربة على الثقافة في دراسة الحركات الاجتماعية ربط أنشطة وسلوكيات الحركات الاجتماعية بالأحداث اليومية العادية، وبالبدهي والاعتيادي وروتين الحياة اليومية. وهذه الثقافة اليومية تشكّل الواقع الخفي المغمور الذي يمثّل الجانب غير المنظور للفعل الجمعي.

تؤكد الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة تغلغل السياسة والقوة في جميع مناحي الحياة، وتُعتبر حساسية الأنثروبولوجيا إزاء شمولية القوة والسياسة وتخللهما إحدى نقاط قوة هذا الفرع، بحسب الكتاب، حيث تتعامل أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة مع السياسة الموجهة بالفاعل، ومن الموضوعات التي تركز عليها الهيمنة والمقاومة. ويسود في الأنثروبولوجيا السياسية تصورٌ مؤداه أن الشعوب تسحقها قوة الدولة. لذلك، يوجه الأنثروبولوجيون انتباههم، على نحو متزايد، إلى الطرق التي يقاوم الناس من خلالها بطريقة عنيفة أو غير عنيفة. وقد أفضى ذلك، في الآونة الأخيرة، إلى بروز موضوعات "أنثروبولوجيا الديمقراطية"، و"أنثروبولوجيا المواطَنة"، و"أنثروبولوجيا الحركات الاجتماعية".

ويشير إلى أنه بدا دمج المتغيرات الثقافية في دراسة الحركات الاجتماعية مفقودًا فترة طويلة، لكن منذ ثمانينيات القرن المنصرم، تتخذ دراسة الحركات الاجتماعية والفعل الجمعي في الولايات المتحدة "منحًى ثقافيًّا". ومنذ ذلك الحين، ذاع مفهوم الثقافة وراج في الأدبيات الأكاديمية، واتجه الباحثون إلى تطوير اتجاهات فهم الثقافة والحركات الاجتماعية ومراجعة هذه الاتجاهات.

غلاف الكتاب


كما ينبّه إلى أن بحوث الحركات الاجتماعية المعاصرة تتجه إلى النظر في ثقافة الحركة الاجتماعية، وتتجلى في ظواهر عدة، مثل الهوية الجمعية والرموز والخطاب العام والحكايات والبلاغة، وتركِّز على المدى الذي تتجسد فيه الثقافة في الأفراد والجماعات، خصوصًا بعد أن شهدت الحركات الاجتماعية تحولًا من التركيز على الطبقة والسلالة وقضايا سياسية تقليدية أخرى إلى الخلفية أو الأساس الثقافي، ولقد كانت الثقافة دومًا محورية في أنواع العمليات التي يتناولها باحثو الحركات الاجتماعية بعامة، مثل تعيين هوية مشتركة وتنمية التضامن وفعل التعبئة. والحقيقة أن الحركات الاجتماعية هي المواقع التي تتشكل فيها الموارد الثقافية الجديدة، مثل الهويات والأيديولوجيات، على نحوٍ متكرّر.

ويرى المؤلّف أن الأفراد داخل الجماعات والتنظيمات يطوّرون أنماطًا خاصة بهم من قيم ومعايير وسلوكيات يومية، وذلك إلى جانب ثقافة المجتمع العامة السائدة، وتُصنَّف هذه الثقافات الجماعية عادةً وفقًا لتمايزها عن الثقافة العامة السائدة باعتبارها ثقافات مضادة، وثقافات فرعية، وجماعات أسلوب حياة، ووفقًا لحجم الجماعة التي ترتكز عليها الأنماط الثقافية، ووفقًا لتماسك هذه الجماعة أيضًا، ثمة اتجاه معاصر إلى وصف حتى العلاقات الاجتماعية المحدودة وغير المستمرة وتشخيصها، باعتبارها تمتلك ثقافات خاصة تميزها. ومن المفاهيم الشهيرة والعتيقة، مثل الثقافات الفرعية والثقافات المضادة، إلى فكرة فاين عن تمفصل الثقافات الفكرية التي ترتكز على ميادين تفاعلية زائلة وعابرة، يمكن أن تطبَّق أبعاد التحليل الثقافي على جميع أنواع تجمعات الحركة الاجتماعية من الخلايا الثورية، حيث كثافة الثقافات الفرعية، إلى حركات الإجماع، فإلى "حركات دفتر الشيكات"، حيث الثقافات متناثرة جدًّا، وجميع تنظيمات الحركة بينية.

ويبين أن الناشطين في تنظيمات الحركة الاجتماعية يصوغون ثقافات فرعية أو داخلية ثرية، تساعد على تدعيم التضامن والالتزام وإدامتهما، وتحقيق تكامل جماعة الحركة واستمراريتها. وتؤثر هذه الثقافة الداخلية في نمو الحركة وبقائها واستراتيجياتها التنظيمية، وتدعم تشكّل هويات جمعية تؤثر في ظهور الحركة، والتجنيد والتعبئة والتكتيكات والمخرجات أو النتائج. ويصوغ ناشطو الحركة تعريفات حدود جماعية يفهمون من طريقها أنفسهم، وارتباط بعضهم ببعض، ومكانهم السياسي في العالم، ويطورون أطرًا وخطابات لفهم القضايا التي يدافعون عنها، والتي تذاع وتُنشر علانية وجماهيريًّا، لاستقطاب أعضاء جدد، وإحداث التغيير المنشود. ومع ذلك، لا تقوم الحركة بذلك في عزلة، بل ينشئ أعضاؤها هويات جمعية وأطرًا وخطابات داخل سياق الثقافة السائدة والتفاوتات البنائية القائمة.

وينبّه إلى أن الثقافة تمثل هوية جماعة الحركة الاجتماعية. وتتسم الجماعة بهوية ثقافية مشتركة، وبأنها قادرة على الانخراط في فعل جمعي. وربما يتزايد الاندماج الثقافي Cultural Compactness بمرور الزمن. وتُعَدّ الحركات الاجتماعية بمنزلة البوتقة التي تتشكل فيها الموارد الثقافية الجديدة، مثل الهويات والأيديولوجيات. وتتألف ثقافة الحركة من الأهداف والأيديولوجيا والمعتقدات ورؤى العالم والقيم والمعايير والرموز والهويات والحكايات والذكريات الجمعية والشعائر والأغاني والفن، وغيرها مما يُنتج التضامن والتماسك، ويحفز أعضاء الحركة، ويديم الفعل الجمعي.

من جهة أخرى، يشير الكتاب إلى أن الجسد المحتج هو أيضًا أداة لتغيير صورة الجسد باعتباره موقعًا للتحكم الثقافي والسياسي. ويتفق ذلك مع رؤية بيير بورديو الذي أشار إلى الطريقة التي من خلالها تفرز عادات الجسد السمات الثقافية والبناء الاجتماعي وتولّدها. إن من نتائج الحركات الاجتماعية تشكيل صور عامة تربك الشفرات الثقافية القائمة.

وعندما يكون التعبير عن الاحتجاج عن طريق الجسد، ولا سيما الجسد الأنثوي، يصعب التسامح حياله لأنه يتحدّى النظام الأبوي القائم. ويمثل الجسد الأنثوي المتمرد على المجال الخاص والجنسانية وتدنيس المكان أدوات لقمع الاحتجاج عمومًا. وتمثل الانتهاكات الجنسية وكشوف العذرية والتحرش الجنسي، من منظور أعضاء الحركة، أدوات سياسية يتوسل بها النظام الأبوي الذكوري لقمع الاحتجاج عن طريق قمع الجسد الأنثوي وانتهاكه وترهيبه، وفق الكتاب.
 

المساهمون