"سياسة" الأردن.. ما قبل السابع من تشرين وبعده

02 نوفمبر 2023
وسط البلد في عمّان، 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي (Getty)
+ الخط -

حتّى مطلع الشهر الجاري، كانت عمّان مشغولة بفعاليات إشهار الأحزاب الجديدة إلى جانب القديمة، استعداداً للانتخابات البرلمانية في العام المقبل. فقد واظب الإعلام الأردني على استضافة كتّاب ومحلّلين لتقريظ ما اعتبروه النقلة الإصلاحية الأبرز خلال سنوات وربما عقود، بالنظر إلى إقرار قانون جديد للانتخاب يمنح مقاعد أكثر للقوائم الحزبية.

انشغالٌ وسط ظروف إقليمية ودولية بدت رياحها تسير معاكسة لواقع استقرّ منذ توقيع اتفاقيتي "أوسلو" ثم "وادي عربة"، قبل نحو ثلاثين عاماً، تمثّل بدعم أردني ومصري لمسار السلام الذي يفترض قيام دولة فلسطينية على ما تبقّى من أراضي الضفة الغربية بعد قضم معظمها بالمستوطنات. ومع تراكم الفشل في تحقيق ذلك، كانت بلدان عربية توقّع اتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي تؤسّس خلالها لعلاقات تطبيعية معه، دون تحقيق أية مطالب فلسطينية، وما رافق ذلك من تهميش متواصل للدورين الأردني والمصري، وللمعادلة السياسية السابقة برمّتها.

حلّ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليخلط الأوراق جميعها. أردنياً، توقّف "العرس الديمقراطي" - كما يحلو للمتابعين تسميته - لتشارك الأحزاب الوليدة في المظاهرات نفسها التي دأبت الأحزاب القائمة على الدعوة إليها والمشاركة الرمزية فيها. كما أقامت هذه الأحزاب الوليدة أو بعضها تجمعات ووقفات تضامنية، على غرار ما تقوم به تلك الأحزاب القائمة، وصدّرت قياداتها بيانات تشبه في محتواها ما تصدّره تلك منذ عقود. والفرق هو اختلاف في الديباجات التي تتضمّن تأييداً وولاء مطلقين للنظام وقيادته!

حياة سياسية "معقّمة" كعرض مسرحي تم تكراره مئات المرات

وفي أوّل اختبار أمام هذه الأحزاب، لم تقدّم جديداً في قضية أساسية لا يمكن النظر إليها بمنأى عن مصالح الأردن وأمنه ومستقبله، فقد اختارت أن تجلس على مقاعد المتفرّجين نفسها وربما متأخرة خطوة أو خطوتين، لأنّها لا تمتلك خطاباً سياسياً أو تصوّراً واضحاً حول كيفية التعامل مع اللحظة الراهنة، شأنها بذلك شأن كلّ المنخرطين في السياسة الأردنية على اختلاف مواقعهم في الحكم أو المعارضة.

يتساءل المرء عن غياب "السياسة" في خطاب القوى السياسية التي لم تتغيّر أدواتها حتى اليوم، وعن معنى الإصلاح السياسي الذي لا يقدّم رموزه فكرة واحدة مفيدة عن الخطوات المتوقعة من الأردن الرسمي في حال استمرار العدوان لأيام أو أسابيع أو شهور مقبلة، ويتساءل أيضاً ما الذي يمكّن عمله، سواء اتسعت دائرة الحرب في المنطقة، أو انتهت بعد كلّ جرائم الإبادة التي مارسها الاحتلال الصهيوني. 

السؤال بلغة أدق يدور حول موقف الأردن بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بالنظر إلى ضعف دوره وتأثيره في دفع "عملية السلام" للحصول على الحقوق الفلسطينية كما ظلّ يدعو في الماضي، وإلى عدم تبلور أي مقاربة جديدة في وقت ينحاز فيه الغرب بالمطلق إلى حليفته "إسرائيل"، في مواجهتها مع أعدائها في المنطقة. الأمر الذي يقود إلى مزيد من الاستقطاب، وربما يصل إلى حدود اندلاع حرب دولية بالوكالة في المنطقة، تصفّي فيها القوى الكبرى حساباتها في ساحة تعدّ الأقل كلفة بالنسبة إليها مقارنةً بساحات مثل أوكرانيا أو تايوان أو غيرهما.

تفكير رغائبي يجلد الذات أو يشتهي الانتصار دون بذل جهد

الحيرة والإرباك لدى النخبة الأردنية ينسحب وبدرجات متفاوتة على غيرها من النخب العربية. لكنه يشير إلى هشاشة في مشروع الإصلاح وفق الوصفة الرسمية. غير أن الأهمّ من ذلك كلّه يتعلّق بتوقّف الحياة السياسية "المعقّمة" - كأنها عرض مسرحي تم تكراره مئات المرات - والتي تهمين على المشهد الأردني. إذ تعطّل مجلس النوّاب الذي يحدث أن تصدح تحت قبته مواقف شعبوية يطلقها نوّاب ينشغل فيها الإعلام الذي انخفض سقف حرباته تجاه جميع القضايا التي يناقشها، لتنفتح بعدها تعليقات الأردنيين على وسائط التواصل الاجتماعي تحمل انتقادات قاسية وتهكماً لاذعاً، قبل أن يُخرسها قانون الجرائم الإلكترونية الذي أُقرّ في آب/ أغسطس الماضي.

لم يتجمّد هذا الشكل للتعاطي السياسي مقابل بروز حالة من الفراغ فحسب، بل يمكن ملاحظة مفارقة أُخرى تتصل بقانون الجرائم نفسه، الذي كان يفترض أن يحاسب المواطنين بالسجن وغرامات بآلاف الدنانير عن نقدهم لأي مسؤول في الدولة، إذ أنهته الحرب على غزّة مع ظهور آلاف المنشورات التي تهاجم الأجهزة الأمنية في إلقائها القبض على متظاهرين ضدّ العدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى تهم التخوين إزاء عدم فتح الحدود للمحتجين أو تجميد العلاقات الأردنية الإسرائيلية، أو إلغاء اتفاقية "وادي عربة"، أو اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني، وغيرها.

تجميد هذه الاتفاقيات أو إلغاؤها أو إعادة النظر فيها لا تزال غائبة عن الخطاب الرسمي، الذي لم يعلن حتى اللحظة أي تسلسل تصاعدي لمواقفه في حال استمرار العدوان. ناهيك عن التساؤل الذي يدور في أذهان المواطن العادي عن اتفاقية الدفاع بين الأردن والولايات المتحدة التي تمّ توقيعها في آذار/ مارس 2021. ويرى كثير من المراقبين أن هذه الاتفاقية تنتقص من السيادة الأردنية في استخدام أراضيه من قبل القوات الأميركية، في حال تمّ ذلك في العدوان المتواصل على غزة.

تشكّك وعدم ثقة حيال الراهن والمستقبل يستحوذان على معظم الأردنيين في وقت لم تقدّم فيه النخب السياسية مجتمعة مقارباتها حول إمكانية التصعيد وآليات تنفيذه على الأرض، ويفضل الجميع التعامل مع الأحداث والاستجابة لها دون التفكير بتداعيات الحرب على الأردن.

لا يبدو الأمر مفاجئاً برمّته مهما أثار مشاعر الحنق والرثاء تجاهه، فبعد عقود من تجريف البنى السياسية والاجتماعية في جميع البلدان العربية، ومنها الأردن، واحتكار السلطات والثروات من قبل تحالف الأمن مع رجال الأعمال النيوليبراليين، تختفي السياسة كتنظير أو فعل على الأرض، وتطفو تصريحات ومواقف عابرة، مهما علت نبرتها، لا يمكنها أن تُنتج شيئاً ملموساً. 

لم يحدث اختراق للواقع، أو انزياح مهما كان بسيطاً، وهو غير متوقّع ضمن المعطيات الحالية، ويبدو أن تحرّر المواطن الأردني، والعربي عموماً، من الحالة الراهنة، سيظلّ مسألة أساسية لدعم مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني، ولا يمكن القفز عنها، من أجل الخروج من خانة التضامن والتعاطف التي هي في جوهرها تعاطفٌ مع ذاتٍ مهمّشة مسحوقة تعبّر عن نفسها بتبنّي تفكير رغائبي يشتهي الانتصار دون بذل جهد فيه أو الاستمرار في جلدٍ للذات غالباً، أو تبقى تراوح بينهما!

* كاتب من الأردن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون