ذهبتُ في تلك السنة إلى "أثينِيّة"، كانت أثينا نصوصاً كلاسيكيّة، كانت كلمة مشحونة بكثير من الصور الشعرية والأساطير ومحاورات أفلاطون، وإيبيكتيت، وذكرى سقراط يسير حافياً في دروبها. ويقف في الأغورا مُرسِلاً أسئلته، مُحاوراً الناس قبل أن ينفصل الفيلسوف عن الشارع... كان سقراط يتكلّم مع الناس على قارعة الطريق، كان تعليمه شفويّاً مثل كونفشيوس وكثير من حكماء تلك العصور القديمة وأنبيائها، ولم يكن ذلك عن عجز عن الكتابة التي كانت رائجة في عصره وما قبله، ولكنّه خيار سقراط... كان سقراط يُفضّل الكلام على الكتابة، لذلك لم يترك نصَّاً مكتوباً، كما فعل معاصروه ومن سبقه من فلاسفة الإغريق.
وكما أورد مؤرّخ الفلسفة العربي القديم، الوزير ابن فاتك، في كتابه "مختار الحكم ومحاسن الكلم": "إنّ سقراط سُئل لماذا لا تكتب؟ قال: لا أُريد أن أضع الحكمة الحيّة على جلود البقر الميّت". هذا النص مثل الكثير من النصوص اليونانية التي ضاع أصلُها اليوناني، ولم يصل إلينا سوى النَّصُّ العربي المترجَم. وأتذكّر حسرة بول ريكور عن خروج الفلسفة من الشارع ومن الحياة وسجنها وراء جُدران الجامعات، فقد لاحظ بول ريكور في أحد حواراته أن أغلب الفلاسفة وأكبرهم عبر التاريخ لم يكُن خرّيج جامعة، واستشهد بسبينوزا، وهو آخرهم.
وأثينا... صورةُ المسرح الحجري اذ يتردّد في جَنباته صوتُ الكَوْرَس العميق في التراجيديات القديمة في الليل تحت أقمار أثينا، وأمطار ريتسوس التي تُبلّل قصائده...
"في الأعلى، خيَّم الليلُ باكراً، ليلٌ
شفّاف
أكثر اتّساعاً من النهار - غابة الزيتون غائمة الحدود
والأعشاب حرقتها الشمس بين الرُّخام.
والمسرح عار معلّق في السَّفح، وفوق الأرض
درعٌ كبيرة مُلقاة على ظهرها، لو تنزل الأمطار،
فستمتلِئ بالماء، وعندها سيأتي السنونو، والزرافة،
والأسد، والثور، وكريزوتيموس، وكلابُ حارس الغابة الثلاثة
والقمر يأتون كلّهم ليشربوا منها".
كنتُ أخجل أن أقتحم عُزلة ريتسوس في شقّته بشارع كوراكا
هكذا وقعتُ في حُبِّ أثينا "كعبة الحكمة" قبل أن أزورها. أحببتُها في كتابات ونصوص الرحَّالة، من خلال تأمّلات أرنولد توينبي في تلك اللحظات التي قضاها في ظلال الأكروبوليس وأوحَت إليه بكتابة تاريخه العتيدة. ومن خلال كتابات الرومانسيين الإنكليز: كيتس، واللورد بايرن، وأشعار كفافس، وجورج سيفريس. كانت أثينا تمتزج بالضّوء الإغريقي الذي أنار العالَم. بالآلهة فهي أيضاً مدينة وآلهة فمن أسمائها "بالاس" وتُنسَب إليها البومة فيُقال: "بومة بالاس إلهة الحكمة"، وقد اتّخذ الإغريق البومة رمزاً للحكمة لأنها الطائر الذي يعيش في دياجير الليل المظلمة، كما الفيلسوف يعيش داخل ليله في ظلام الوجود يواجه المجهول ويجترح السؤال.
وأثينا موئل الأكروبوليس ومسرح ذاك العصر المجيد الذي وضع أُسساً فكرية راسخة للعقل البشري. أجل، لا أحد قرأ اليونان الكلاسيكية وأفلت من أسرها. وكتابات الرحّالة ومراسلات هنري ميللر مع لورانس داريل الذي هرب هناك من عناء الإسكندرية، واستقرّ في تلك الفيلا بجزيرة كورفو التي يصفها في الرباعيّة، حيث التجأ البطل ليكتُب سيرةَ مدينته، ويتخلّص من ألَم التجربة بِوضعِها على الورق، ويصفُ داريل كيف كان يكتب على إيقاع ساعة واحدة هي موج البحر الذي يصلُ إليه من الشاطئ في صمت الليل، ويسمع وجيب الرّيح في المِدْفأة؛ ولم يكُن يمرّ بالجزيرة أيَّامها سوى قارب واحد في الأسبوع يلمح أضواءه من بعيد، وهو الخطّ البحري الوحيد الذي كان يربط الجزيرة بالعالَم في تلك الأيّام من الثلاثينيات، هناك زاره هنري ميللر ووضع كتابه "عملاق ماروسي".
وفي جزيرة كورفو، كان لوران غسبار يقضي أوقات الكتابة، هناك أنهى قصيدته "أجساد ناهشة". لوران كان على علاقة بجورج سيفريس في تلك الحقبة من السبعينيات، فكان قد ترجم كتابه "اليوميات" إلى الفرنسية؛ وهو الذي كتَب لصديقه يانيس ريتسوس توصية باستقبالي، وهكذا بدأت علاقتي بيانيس ريتسوس التي استمرّت بعد ذلك، وفي زيارتي الثانية لأثينا مكثتُ شهراً كنتُ ألتقيه بمعدّل ثلاث مرّات في الأسبوع، كان يقول لي: "تعالَ زُرني"، وكنتُ أخجل أن أقتحم عليه عزلتَه في شقّته الكائنة بشارع كوراكا، في الطابق الرابع من تلك البناية البيضاء.
كان يجلس هناك كامل الوقت مُحاطاً بالتماثيل البدائية التي كان ينحتُها أيّام المنفى. هناك كان يقضي نهاره في الكتابة... كان يكتب كثيراً، وعندما قلتُ له: "لم أنشُر ديواناً"، قال: "نحن مطالبون بكتابة ألف كتاب"... تحدّث أيضاً عن صديقته ميلينا ميركوري، قال: "هي تُمارس السياسة والسياسي ليس كالشاعر أو المثقّف، أمام الشاعر كامل الوقت، أمّا السياسي فهو واقع تحت ضغط الأحداث، ولا بدّ له من اتّخاذ موقف أو عمل شيء في حينه".
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام