في تشكل وتراكم مفهوم الثقافة السياسية، خصوصاً عندما أضحت مبحثاً أكاديمياً في منتصف القرن العشرين، جاءت محاضرة ستيفن ويلش، الزميل الفخري في كلية الشؤون الحكومية والدولية في "جامعة درهام" بالمملكة المتحدة، طارحاً رؤيته بعنوان "الديناميات السببية للثقافة السياسية".
هذه المحاضرة افتتحت اليوم الثاني من أعمال الدورة التاسعة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية" حول "مفهوم 'الثقافة السياسية' والثقافات السياسية في العالم العربي" المقام في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة. وكان ما طرحه ويلش، وهو مؤلّف كتابي "مفهوم الثقافة السياسية" عام 1993 و"نظرية الثقافة السياسية" عام 2013، مسحاً مقارناً بين منجزات المؤسّسين لبحوث الثقافة السياسية، وما نجم عنها من موجات عريضة منذ الستينيات، وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة.
هذه الموجات ستتسع بالتدريج كمّاً ونوعاً وليست وليدة لحظة منقطعة، بل إن مرور ستين عاماً من الإنجاز لا يغفل الجذور التي ترجع إلى القرن التاسع عشر، مع ما قدّمته العلوم الاجتماعية الأوروبية من تصورات متراكمة.
يلاحظ ويلش أن هناك من يصرّ على مفهوم تأويلي للثقافة السياسية وبالتالي تفادي العلاقة السببية، وهو ما يمكن أن نرى تمثيله في فكر ميشيل فوكو، وإدوارد سعيد اللذين يقول إن "لديهما نظرة تأويلية للبحث في مجال الثقافة السياسية مسيسة، تستند إلى بحث علاقات القوة وبنغمة ساخرة إلى حد ما".
وخلال عقود من السجال والخلاف حول وجود علاقة سببية منذ الخمسينات (غابرييل ألموند باشر بتعريف "الثقافة السياسية" منذ أواسط الخمسينيات) حاول المحاضر الخوض في ثنايا هذه القضية باحثاً عن مقاربته الخاصة.
دور القيم في الفعل الاجتماعي
في هذا العقد ظهر المفهوم مستنداً إلى ما قدمته العلوم الاجتماعية الأوروبية من تصوّرات عن دور القيم في الفعل الاجتماعي، ومن ذلك بعض إسهامات سان سيمون، وأوغست كونت، وإميل دوركايم، ولاحقاً تالكوت بارسونز.
والمنظّر الأكثر أهمية في تطور مفهوم "الثقافة السياسية"، بحسب ما يرى عالم السياسة الأميركي غابرييل آملوند، هو عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي كشف كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" عن دور القيم الدينية في تطور المجتمعات الأوروبية نحو الرأسمالية.
تطرق ويلش هنا إلى تراكم المواقف النقدية للبيئة التي تنمو فيها الثقافة السياسية وميّزها عن الرأي العام، إذ هذا الأخير كان مدار حديث قبل الحديث عن الثقافة السياسية، وقبل الاستخدام اللاحق للرأي العام كما نعرفه. يعود بنا المحاضر إلى وقت مبكر من الطروحات حول الرأي العام في ثلاثينيات القرن الماضي.
بيد أن هذا البحث في الثقافة السياسية - على ما يواصل - يختلف عن ظاهرة الرأي العام التي تتغير بشكل سريع، وهي تتأثر بسلوكيات الأفراد والقادة والسياسيين والأحداث والفضائح، بينما الثقافة السياسية هي خارج حدود الحيز الذي يفعل فيه الرأي العام فعله.
الستينيات والموجة الأولى
في عقد الستينيات من القرن العشرين وقد كانت الموجة الأولى من الكتابات الكبرى في هذا الحقل، يستذكر المحاضر الأميركيين غابرييل ألموند وسيدني فيربا في كتابهما المشترك "الثقافة المدنية: المواقف السياسية في خمس أمم" الصادر عام 1963، والذي يعد المرجع الأساس لمفهوم "الثقافة السياسية".
وقال المحاضر إن ألموند استند إلى مسوح العقليات والمواقف الذهنية، حيث يفترض أنك تحدد ماهية الثقافة السياسية من خلال نوع الأسئلة التي تطرحها في استبيان والثاني يستخدم طرقاً تأويلية أكثر، لأنه درس بعض البلدان التي لا تقع فيها هذه المسوحات.
تحدث ويلش عن تجربته الخاصة، وقد درس بلداناً شيوعية، متسائلاً: "هل يمكن للثقافة السياسية أن تعيننا على فهم البلدان الشيوعية بشكل عام، والأوروبية الشرقية بشكل خاص؟"، وإذ تطرق إلى رسالة الدكتوراه التي حققها، قال إنه ركّز على الأمور النظرية التي تستبعد إجراء أي مسوحات ميدانية، صعبة المنال لشخص غربي في بلاد محكومة بالحزب الشيوعي. وعليه، قال إن هذا سيؤدي إلى ما وصفه بـ"العجز الإمبريقي".
موجة السبعينيات
أما الموجة الثانية، ويعني التي انطلقت منذ عقد السبعينيات، فرأى أن الجدير بالذكر دائماً هو رونالد إنغلهارت، وكان عالماً سياسياً متخصصاً في السياسة المقارنة، وخصوصاً كتابه "الثورة الصامتة" الذي صدر عام 1977.
وتابع أن هذا الكتاب ينظر في القيم ما بعد المادية، رابطاً ذلك بقيم العصرنة، ومستوى التعليم وتعزيزه والعلمانية وتغير هذه المفاهيم وفق هذه النظرية.
الثقافة السياسية - وفق إنغلهارت - في المجتمعات الصناعية المتقدمة حققت تغيراً كبيراً، رابطاً ذلك بالعصرنة، حيث يتعلم الناس القيم في فترة الشباب (بين السنة العاشرة والخامسة والعشرين)، وعليه يمكن للثقافة السياسية أن تتغير ولكن ببطء، وعندما يتعلمونها يتشبثون بها وتموت قيم سابقة.
وواصل المحاضر، مستنداً إلى طروحات إنغلهارت، أنه "في المجتمعات الصناعية المتقدمة هناك ضغوطات حصل أنها نُحّيت جانباً... فعندما تكون آمناً مادياً تبدأ التفكير في البيئة والأقليات وتفاصيل أُخرى".
وواصل القول إن هناك مشكلة في التفريق بين سياسات الثقافة والثقافة السياسية، مبيناً أن لا بأس في الاختلاف الاصطلاحي، ولكن مع ذلك يحتاج الأمر إلى تفصيل لنفض الغبار عنهما، عندما نعاين الكر والفر بين مصطلحي ثقافة سياسية وسياسة ثقافية.