استمع إلى الملخص
- كتب الغافري اثنتي عشرة مجموعة شعرية بين 1983 و2021، محافظاً على معجم الغربة والاغتراب، مع تفضيله اليومي على الرؤى الكبرى كالأسطورة والتاريخ.
- رغم إسهاماته في قصيدة النثر الخليجية، احتفظت قصائده بالعادية واللغة البسيطة، مما يعكس تجربته الطوعية في المنفى وسفره الدائم.
انشغل الشاعر العُماني زاهر الغافري (1956 - 2024)، الذي غادر عالمنا أوّل من أمس السبت، في قصيدته، وبوضوح، بهاجس المدينة، بوصفه مفهوماً يُرتحَل إليه دائماً، وإن لم يَتّخذ من تلك الكلمة (مدينة) عنواناً لأيّ من مجموعاته الشعرية بشكل مباشر، سوى مجموعته الأخيرة "مدينة آدم"، الصادرة مؤخّراً عن "مرفأ للثقافة والنشر" في بيروت. وقد يبدو مردّ هذا الحضور الارتباط العميق بين ترحالات الشاعر الطوعية عن وطنه العُماني، وإيثاره التجوال بين بغداد والدار البيضاء والرباط وطنجة وباريس ولندن ونيويورك، وأخيراً مالمو حيث رحَل، وبين قصيدته التي أُشرِبت معاني السفر المديد.
قبل ذلك، كتَب الشاعر الراحل اثنتي عشرة مجموعة شعرية بين عامَي 1983 و2021 لكلّ من تلك المجموعات عوالمها. ولئن تراوحت مؤدّياتُها ولغتُها وخبراتُها بين البدايات والنهايات بطبيعة الحال، فإنّها ظلّت محافظة على مُعجم الغُربة الأثير الذي ظلّ يمتح منه. يكتب في قصيدة بعنوان "خشب الطفولة" (2020):
"لا،
أنا لستُ من هنا
كنتُ فارساً يخطف صبيّةً
على حصانٍ من خشب الطفولة ثم متُّ.
اذهب واطُرق ذلك الباب
سيأتي إليك الصوتُ
لك وحدكَ من وراء القبر".
آثرت قصيدته اليومي على الرؤى الكبرى كالأسطورة والتاريخ
وفي قصيدة أُخرى بعنوان "البراري"، يستعير أُسطورية إرم ذات العماد ليُعبّر من خلالها عن البُعد والاغتراب:
"إرم ذات العماد
وثماري العالية
لا يأبه الجالسون بالغريب
الأرصفةُ مليئة بالفراشات هذه الليلة
وعلٌ جريحٌ
دمُه على الرّكبة قرب ينبوع".
وعلى نفس الخطّ الممتدّ بين مفاهيم المدينة والرحلة والغُربة، نجدُ الغافري يؤكّد في إحدى حواراته الصحافية أنّ تجربته مع المنفى طوعية. وهنا يتّضح لنا الفارق الذي تكتسبه تلك المفاهيم في تجربته، وكأنّ الخيار الحُرّ في الرحلة، لا الاضطرار لها كما هو الحال مع تجارب المنفى القاسية، ينعكس حرّيةً أيضاً على الموضوع ذاته، وعلى القصيدة نفسها التي تستوحيه. يكتب:
"تعلّمتُ أن أتنزّه في بلداتٍ
تطفو فوق المتاريس
لكن ها أنا أنتظرُ وحدي شعلة
في البيت
طرقةً على الباب
شمساً صغيرةً فوق المائدة
تدعوني للبحثِ بين الأيقونات المكسورة
ربّما أضعتُ البوصلة".
وكأنّنا بالشاعر، هُنا، يتخلّى عن التجربة و"بوصلتها" كي لا يُؤبّد اللحظة، مكتفياً من غنيمة المنفى بـ"شمس صغيرة"، كما عنونَ قصيدته التي كتبها عام 2020.
لم تبرح قصيدة زاهر الغافري حدود اليوميّ، وآثرته على سواه من الرؤى الكبرى، مثل الأسطورة والتاريخ وغيرهما، التي حضرت في شعره لكن بتنويعٍ خاص، ومن دون أن تُشكّل عنواناً عريضاً، سوى في مجموعته "هذيان نابليون: ولعلّنا سنزداد جمالاً بعد الموت" (2021).
ورغم ما أسدته تجربتُه، منذ الثمانينيات، إلى قصيدة النثر الخليجية، إلّا أنها احتفظت لنفسها بمقدار من العاديّة لم ترغب بتجاوزه، وبالأخصّ على مستوى اللغة، وهذا ما يُسمِّيه الشاعر والمترجم التونسي أيمن حسن، في تقديمه لمجموعة الغافري الأخيرة، بـ"مرافئ حقيقية وخيالية"، أيّ أنّها مزيجٌ أكثر من كونها واحداً من الحَدّين، وهذا يُذكّر برؤية الشاعر نفسه عن تجربته التي ظلّ يعود في قراءتها، كما عبّر عن ذلك في أكثر من حوار، إلى ترحالاته الطوعية وسفره الدائم.