رولان فيسكالد: التفكير بأدوات ميشيل هنري الفلسفية

19 ديسمبر 2022
ميشيل هنري (Getty)
+ الخط -

في بعض الأحيان، يشبه تلقّي الفلسفة تلقّيَ الأعمال السينمائية والتلفزيونية أو حتى الأدبية، حيث تجتذب اشتغالاتُ النجوم الأضواءَ، لتصبح شاشةً عملاقة تحجب وراءها عشرات، وربما مئات التجارب التي تستحقّ القراءة والنقاش والاعتراف بها.

ينطبق هذا، إلى حدٍّ بعيد، على الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري (1922 ــ 2002)، الذي بقيَ تلقّي تجربتِه محصوراً في الإطار الأكاديمي وبين العارفين بالفكر الفرنسي في القرن العشرين والمهتمّين به، بعكس مفكّرين مثل جاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دولوز، من الذين لا تمرّ فترةٌ قصيرة إلّا ويصدر في فرنسا كتابٌ يناقش أفكارهم، أو ربما يضمّ دروساً ومحاضرات ألقوها ولم تصدر من قبل.

عن منشورات "لارماتان" في باريس، صدر حديثاً كتاب "في تتبُّع ميشيل هنري"، للباحث الفرنسي رولان فيسكالد، أحد الذين عرفوا هنري خلال تدريسه لسنوات طويلة في "جامعة موبلييه" جنوب فرنسا، والذين خصّصوا لفكره ومسيرته أكثر من إصدار.

ميشيل هنري

يضمّ الكتاب أربع عشرة مقالة تتناول مواضيع مختلفة من التي توقّف عندها الفيلسوف الفرنسي، حيث يعالج المؤلّف عدداً من المفاهيم الأساسية التي انشغل بها صاحب "الفينومينولوجية المادّية"، مثل الحقيقة، والجسد، واللغة، والذاتوية، ومعنى المذهب الظاهراتي في الفلسفة، إضافة إلى مفهوم الحياة، الذي عُدّ ميشيل هنري من أبرز الفلاسفة الذين ناقشوه بعد هنري برغسون.

على أن المهمّ في هذا الكتاب لا يتمثّل بالضرورة في تحليله لمدوّنة صاحب "رؤية اللامرئي: حول كاندينسكي" وتعريفه بها، بل في توظيف المؤلّف لفكر هنري وأطروحاته ضمن مناقشته لثيمات ليست من تلك التي شملتها مدوّنة الفيلسوف الراحل، مثل مفاهيم المسافة، والشفاء، إضافة إلى معنى القراءة الفلسفية واختلافها عن القراءات الأُخرى، وكذلك تحليل جمالي وفلسفي لإحدى لوحات الفنان التشكيلي الفرنسي أوديلون رُدون (1840 ــ 1916).

ومن أكثر هذه المحاولات التي جاء بها المؤلّف طرافةً، مقالتُه عن "المدينة بحسب ميشيل هنري"، والتي ينطلق فيها من رواية هنري (نشر الفيلسوف أربع روايات خلال مسيرته) "أن تُحبّ وعيناك مغمضتان" ودور المكان والمدينة فيها، ليقترح مقولاتٍ حول العمران والعلاقات الحضرية والعمارة، كقوله بأن العمارة والتصميم الحضري ليسا فنّين من "فنون الخارج" أو من الفنون التقنية، بل تجسيدٌ في العالَم الخارجي لرؤية وإحساس داخليين، حيث اللمسة الأخيرة/ الخارجية ليست إلّا تحوّلاً مادّياً للمسة الأولى/ الداخلية، بحيث يصبح كلّ شارع، وكلّ عمارة، أشبه بآثار وتوقيعات لتجارب إنسانية تمنح الحجارة والمعدن معانيَ تمنح المدينة جوهرها، أي تجعل منها مساحة عيش لا يمكن اختصارها بكونها مجموعة من المباني والحجارة، بل باعتبارها تجسيدات ظاهرة ومرئية لأحاسيس وتجارب فردية وغير مرئية أساساً.

المساهمون