رهانٌ على المثقّف المستقل

26 أكتوبر 2023
منظر علوي للدمار الذي سببته الغارات الإسرائيلية على دير البلح في غزة، أمس الثلاثاء (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.



يتعرّض الشعب الفلسطيني لأكبر إبادة جماعية من طرف الكيان الصهيوني على مرأى ومسمع ما يسمى بـ"المجتمع الدولي". ولقد بدا واضحاً أن نتنياهو مجرمٌ أبله يريد قتل الفلسطينيين دفعةً واحدة وفي أسرع وقت ممكن. وتدعمه الولايات المتحدة الأميركية في هذا المشروع الإجرامي، وهي الراعي التاريخي للاحتلال منذ 1967، قبل أن تفصح عن دعمها المطلق والمباشر للاحتلال بعد عملية طوفان الأقصى، وتُرسل حاملات طائرات ومعدّات الهجوم الجوي، بل حشدت حلفاءها والمجتمع الغربي للإجهاز على الحق الفلسطيني في الأرض والحياة. في الوقت الذي أرسل القادة العرب إلى فلسطين الكثير من الأدعية في المساجد! 

تدعم أميركا وحلفاؤها إسرائيل بالمعدّات العسكرية، مقابل الصمت العربي الرسمي ككلّ مذبحة ومجزرة. وحدها الشعوب خرجت في مظاهرات شعبية في الرباط والقاهرة وبيروت وبغداد وعمان وصنعاء وتونس وغيرها من العواصم والمدن العربية. وهي كلّها تدين العدوان الهمجي على سكان غزة وما يتعرضون من قصف صاروخي على مدار النهار والليل فارتفع عدد الشهداء والجرحى في الشوارع وتحت المباني المهدّمة. ولقد تمّ الإجهاز بالمرّة على البنية التحتية في قطاع غزة، بل لم يتورّع الجهاز العسكري الصهيوني، الذي قصف المستشفيات، عن إصدار أوامره للكوادر الطبية بالانسحاب وإخلاء المستشفيات في الوقت الذي تكتظ فيه الأسرّة والممرات بالجرحى. من دون احتساب عدد المرضى الممددين تحت أنابيب التنفّس الاصطناعي وهم في حالات حرجة. 

وما عساها أن تملك الشعوب المقهورة غير الهتاف والصراخ في الساحات العمومية؟ لكنّه صراخٌ مهم على الأقل أمام الجبن العربي الرسمي، وفي وقت تَزايَد التطبيع العربي الإسرائيلي، وانخرطَ الطرفان في تعاونٍ مشترك يهم المجالات الحيوية، بما في ذلك المجال العسكري والاستخباراتي. وقد جنّدت الحكومات العربية قنواتها ومثقفيها للدفاع عن مشروع التطبيع وتجميله. فيما وجد المثقف العربي نفسه مجبرًا على التطبيع والرضوخ لحسابات وأجندة المخزن، بل إنّ كثيرًا من بيانات التضامن التي تصدرها اتحادات الكتاب والمنظمات الثقافية والأدبية بالعالم العربي، بمناسبة أو بأخرى، تُحرّرُ بإيعاز من دواوين الوزارات العربية. نتحدّث عن المثقف المدجّن الذي يصطف ضد الشعوب ويشكّل خطرًا عليها، حين انبرى يبرّر تعسّف السلطة ويجد مخرجات لكل مجزرة عربية. 

تحرير الذات الفرديّة والجماعية من العناصر المُنتجة للاستعمار

ومع ذلك، يبقى الرهان الكبير على المثقف المستقل الذي يؤمن بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وحق العودة لجميع المهجّرين. نراهن على المثقف الذي يحتفظ بمسافة كبيرة من المؤسسات، ويملك الضمير الفكري وينتصر للقضية ويندّد بمجازر "إسرائيل"، ويفضح المشروع الصهيوني الذي اتسعت قنواته وأصبح يهدد الثقافة العربية التي تراجع دورها بسبب تأثّرها بثقافات وأيديولوجيات لا تتوافق مع منجزها الحضاري ولا مع معطيات المنطقة وتاريخها. وإن كنّا نسجل بطء وترّدد المثقف العربي في التعاطي مع المتغيّرات الفكرية والتفاعل مع الأحداث الآنية، وخير مثال ما شاهدنا إبّان اندلاع ثورات الربيع العربي التي أزاحت البساط من تحت الأحزاب والنقابات العمالية، ومن تحت المثقف الذي اكتفى بدور المتفرّج، وفي أحسن الأحوال دور الإطفائيّ.

نلوم المثقف العربي ونُحمّله المسؤولية التاريخية بخصوص ما يقع في غزة. ونثق في قدرة المقاومة الفلسطينية على انتزاع حقّها في الأرض والحرية. ونثق في قدرة الشعوب العربية وغير العربية على مواصلة الاحتجاج والضغط على حكوماتها وعلى المجتمع الدولي لإيقاف الإرهاب الإسرائيلي. ونلوم أنفسنا كتّاباً وشعراءَ لأننا لا نملك غير الكلمات الغاضبة نرشق بها الصمت العربي من المحيط إلى الخليج. أمّا الأشعار والسرديات المطوّلة التي تؤرّخ للجرح الفلسطيني، فيكفينا هذه الأيام مشاهد الرعب التي تطلع علينا في التلفزيون العربي. بينما منصات التواصل الاجتماعي تمَّ التضييق عليها هي الأخرى، وذلك حين ضاق صدر مارك ورفاقه بالمنشورات التي تدعم فلسطين، وأراد أن يضع الكمامات على أفواهنا.   


* شاعر وكاتب مغربي


هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الرابع من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون