مرحباً خافيير: ها أنا أكتب لكَ هذه الكلمات من مطار "كاميلو دازا". ولا أعرف إن كانت ستكون طويلة أم قصيرة...
جعلني شيءٌ ما في كلماتك أتذكر أنّه في ركن من غرفة طفولتي، كان هناك صندوق صغير، وبداخله تركت آثار شخصٍ مات قبل ثلاثة عشر عاماً.
شخصٌ لم يبلغ سن الرشد أبداً، ذلك أنه سار على طريق الحياة بموقف شابٍ أبدي، وبقبعة شبابه، وبنطلون جينز شبابه الممزّق، وبعينين وصوت شابين، وبأحلام شابة، وبحبّ وصبواتٍ شابة. نعم... كان عمره سبعةً وعشرين عاماً لا غير، في اليوم الذي قتلوه.
وكما قلتُ لكَ، الآن ومعكَ على وجه التحديد، أفهمُ لماذا احتفظت بذلك الصندوق بحرصٍ شديد، مع أنني منذ موته لم أتحدّث معه. لعلّي احتفظت به لنفسي، لأنني وعلى الرغم من أنني استطعت أن أوجّه حياتي في ما بعد، لم أفكر أبداً في التخلّص من الذكريات. كنت أحملها معي، وقد صارت حروف اسمه الأولى مفاتيح تفكّ كل كلمات السرية الإلكترونية.
لا يمكن للبشر أن يختفوا، يبقون في المشهد، يستمرّون فينا
ها أنا الآن أكتب لكَ، كما كنتُ أفعل معه، على ورق دفتر أبيض وبقلم ملوَّنَ. لقد حملتُ رسائَلهُ معي، في حقيبتي، طوال الأسبوع الفائت كلّه، ولكنني لم أستطع أن أحسم أمر إرسالها، لأنني شعرت أنني سأخون ذاكرته لو أرسلتها وحدها، دون كلماتي كرفيقةٍ لها، تحدّثك عنه وتخبرك أنني الآن أشعر وكأنني أراه جالساً على أرضية هذا المطار، يرافقني في انتظار الطائرة التي ستقلّني إلى مدينتك. ستصل الطائرة بعد ساعتين، وفي هذه الأثناء سأنتظر هنا، مع حقيبتي ورسائله.
ومنذ أن قررت أن أجمعَ الشظايا التي تركها الوقت والغبار، حملتُ ذكراه معي طيلة الوقت. والآن أشعر أن لدي الحرية الكافية كي أفكرَ، وأمشيَ، وأتحدّثَ، وأبتسم دون أن أشعر أنَّ نظرات الأمومة تراقبني. أشعر الآن أن بوسعي أن ألتقيه في الشارع، وأن أتحدّث معه، أشعر أن باستطاعتي الآن أن أستمع إليه وإلى قصصه المُذهلة مرّة أخرى، وأن أضحك بصوت عالٍ من جديد، مع أنني كنت أعلم أنّها مجرد قصص وهمية من تخيّلاته كان يبتكرها للترفيه وإثارة الإعجاب... الآن يمكنني أن أتعرّف عليه، وقد صرتُ أكبر منه بسنتين.. نعم الآن حين لم يعد أكبر منّي بـ 11 عاماً ويومين.
اعتادَ أن يكتبَ لي أنه سيراني دائماً، حتّى بعد موته. حينها كنت أفكّر أنّها واحدة من تلك العبارات المزخرفة التي يحبّ استخدامها، إلّا أنني الآن أتشبّث بها وأحسب أنها حقيقيةٌ يا خافيير. لا يمكن للبشر أن يختفوا، يبقون في المشهد، يستمرون فينا، نحن الذي نشكل جزءاً من المشهد أيضاً.
هذه هي كلماته يا خافيير، ومعها أرسل قلبي المراهق الذي حلم ليالي كثيرةً أنَّ الحياة إلى جانبه ممكنة، وأن ثمة إمكانية لبناء عالمٍ محتمل، بعيداً عن العنف الذي تسبّب بموت شقيقته الصغيرة، أجمل طفلة في العالم، وعمرها خمسة عشر عاماً. كان ذلك جرّاء هجوم على منزله، إذ كانوا يبحثون عن أُمه التي ماتت في السجن من أجل قضية متعلّقة بالمخدرات والخطف وأشياء شبيهة...
شكراً يا خافيير لأنك تؤويه في منزلك، شكراً لاهتمامك بقصّته (أعتقد أن الفكرة ستعجبه كثيراً).
هذه كلماته، ومعها أرسل كلماته وقطعاً صغيرة من أحلامه...
عناق.
10 آذار/ مارس، 2016، الساعة العاشرة مساءً
* من كتاب "رسائل من رماد". ترجمة جعفر العلوني
بطاقة
Javier Osuna كاتب وصحافي كولومبي من مواليد بوغوتا عام 1987، حاصل على ماجستير في البحوث الاجتماعية متعدّدة الاختصاصات. يتناول في كتاباته الصحافية الجرائم التي ارتكبتها المليشيات المسلَّحة في كولومبيا أثناء الحرب الأهلية. في 2009، نال "جائزة سيمون بوليفار للصحافة الوطنية" عن تقرير بعنوان "الصحافة الصامتة". "رسائل من رماد" (2022/ الغلاف) هو كتابه الثاني بعد "ستحدّثني عن النار" (2015).