استمع إلى الملخص
- يُقام معرض "رحلات الماء" للفنانة سارا كاملافند في قرطبة، مستعرضاً تطور تقنية القنوات المائية من بلاد فارس إلى الأندلس، مع التركيز على مدينتي مدريد وقرطبة.
- يبرز المعرض الترابط الثقافي بين الحضارات من خلال أنظمة القنوات، ويسعى لإحياء هذه التقنيات لمواجهة تحديات معاصرة مثل التغيرات المناخية وندرة المياه.
يشكّل الماء العنصر الأكثر قرباً إلى الحياة البشرية، فهو أصل الحياة في الأماكن والمدن التي يسكنها الإنسان. غير أن للماء حياة لا تعرف الركون أو السكون. فمساره أن يعبر دائماً. أن يتنقل ويرحل وأن يصل بين الحضارات. ولهذا السفر والعبور تاريخ وأصل، فتعود رحلة الماء الأولى في شبكة من القنوات الجوفية والمهجورة إلى تاريخ تأسيس مدينة مجريط (مدريد حالياً)، على يد أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الأموي، في القرن التاسع الميلادي، وقد جرى استخدام هذا النظام لأكثر من ألف عام، قبل أن يجري التخلص منه مع قدوم الثورة الصناعية.
"رحلات الماء" عنوان معرض الفنانة والمهندسة المعمارية والباحثة الإيرانية المقيمة في باريس سارا كاملافند، والذي يقام حالياً في مقرّ "البيت العربي" بمدينة قرطبة، ويتواصل حتى التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، حيث تتتبّع الفنانة فيه مراحل تطوّر تقنية "القناة" (رحلة الماء باللغة الإسبانية) في التراث الهيدروليكي من بلاد فارس القديمة، والتي تقوم بنيتها التحتية على استخدام طبقات المياه الجوفية، بدلاً من المياه السطحية، وصولاً إلى الفترة الأندلسية، لا سيما مدينتي مدريد وقرطبة.
يحلّل المعرض البنية التحتية في مدينة مدريد، ليس من الناحية الفنية فحسب، بل يدرس أيضاً التراث الثقافي بدءاً من أصل الشبكة، حيث يبلغ عمر هذه البنية التحتية القديمة، القناة، التي جرى اختراعها في إيران، أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهي مدرجة في أطروحة فيتروفيوس عن الهندسة المعمارية، المكتوبة عام 18 قبل الميلاد. تلتقط هذه القنوات الجوفية المحفورة يدوياً المياه العميقة عن طريق التسلل أو "الشعيرات الدموية"، وترفعها إلى الأعلى متحدّية الجاذبية. أدّت قنوات مدريد إلى ظهور الحدائق وتغذية النوافير العامة لمدة ثمانية قرون قبل أن يجري التخلّي عنها. واليوم، عندما تُعاني مدريد من نقص المياه، تستمر هذه البنية التحتية في ري الممرّات تحت الأرض بشكل سلبي ودون انقطاع.
ترابط عضوي بين قنوات قرطبة وأنظمة القنوات المتبعة في بلاد فارس
ومن خلال الرسوم والتفسيرات والتحليلات، تُعيد الفنانة الإيرانية إحياء رحلة تلك المياه، وذلك من خلال إعادة وإنشاء ورؤية ما كان عليه وضع قنوات المياه التي استُخدمت ماضياً، واستُبدلت فيما بعد بطرق هيدروليكية أكثر حداثة. كما تعيد تمثيل ما كانت عليه ناقلات المياه، التي تعمل كمرشحات وفلاتير، يستخدم فيها الطين مع مواد عضوية، مثل بقايا الخشب، أو الأوراق أو البذور، وذلك بهدف منحها مستوى معيناً من المسامية، مما يسمح بتصفية المياه. كانت هذه التقنيات المائية أحد أسباب التوسع الحضاري الإسلامي، عبر حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث أدت إلى ظهور بيئة الحدائق في المناظر الطبيعية القاحلة، وازدهرت على اقتصاد البستنة.
كذلك يبيّن المعرض ارتباط الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وهذا ما يتجلى بشكل واضح من خلال الترابط العضوي بين أنظمة القنوات في مدينة قرطبة الأندلسية وأنظمة القنوات التي كانت متبعة في بلاد فارس، حيث كل ما له علاقة بالممرات الهيدروليكية، وكل ما هو له علاقة بتدفق المياه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعالم الفارسي، وقد استطاع الأندلسيون أن يطوّروا تلك الهندسة داخل الصروح والأبنية والحدائق التي شيّدوها، انطلاقاً من فكرة القناة. ومدينتا مدريد وقرطبة مثالان واضحان على ذلك.
في ظلّ اللحظة الراهنة التي يعيشها العالم، التي تتسم بالتغيرات المناخية، وندرة المياه، من بين أمورٍ أخرى، تحاول الفنانة العودة إلى الروايات الأولى المتعلّقة بالمياه، والاستفادة منها باعتبارها روايات بديلة، وتقديمها أدوات عملية ومفاهيمية لمعالجة التحديات المعاصرة.