تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر، ذكرى ميلاد المعماري العراقي رفعة الجادرجي (1926 – 2020).
يشير رفعة الجادرجي الذي تحلّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده في كتابه "دور المعمار في حضارة الإنسان" (2014) إلى أن دراسة العمارة، بالنسبة إليه، هي دراسة الوعي بضرورة إدامة وجود ناضج، يؤدي إلى تحريك آلية قدرات الابتكار التي تقوم بدورها في تفعيل الدورة الإنتاجية، حيث يتحقق تغيير المادة من صيغتها الخام إلى شكل المصنّع كأداة في إرضاء الحاجة.
ويرى المعماري والباحث العراقي (1926 – 2020) أن وظيفة العمارة في مجتمع الإنسان وغيرها من المصنّعات، هي ليست أداة سكن وخزنٍ والتخلّص من الفضلات، فحسب، ولا تنحصر في أداة إرضاء الحاجات النفعية والجمالية فقط، وإنما هي كذلك أداة حوار اجتماعي والتعبير عن الهوية، وعن وعي موقع الذات في الوجود. فالعمارة أداة حوار مثل الإيماءات والأصوات التي يستعملها الخطيب أو المغني أو الممثل.
ويضيف الجادرجي أنه "بقدر ما يخلو هذا الحوار من تنوّع ناضج ودلالات اجتماعية، سيعجز الحوار الاجتماعي عن تطوير مركب القدرات المعرفية والحسية التي ترثها بيولوجية الفرد، سواء أكان واعياً بهذا العوز أم لا. وهو يعتقد بأن التعمير المعاصر في بيئة الوطن العربي هو تعمير ملوّث بصرياً، وأن المعيش مع مصنّعات أشكالها ملوّثة بصرياً، تؤدي بدروها إلى أن تُكبت القدرات الحسّية.
ويخلص إلى أن تلوّث البيئة المعمرة، يؤلّف دالة واضحة على فقر القدرات الحسية والمعرفية لهذا المجتمع، كما أنه دلالة على عجز تربوي وجودي، لافتاً إلى أنه يكمن هنا مصدر أهمية التنظير والبحث في بنيوية العمارة، ولكي يتمكّن قادة المجتمع من تجاوز المعوقات الأيديولوجية، ومن ثم تهيئة التربية المناسبة لجيل جديد.
رأى أن تلوّث البيئة المعمرة، يؤلّف دالة واضحة على فقر القدرات الحسية والمعرفية للمجتمع
بدأ الجادرجي تنظيره منذ وضع أطروحته في "جدلية العمارة" عام 1952 ونشرها في كتاب "شارع طه وهامرسمث" الذي صدر عام 1985، وشكّلت رؤيته في المواءمة ما بين الأشكال التقليدية والحضور الحتمي للتكنولوجيا الحديثة، في محاولة لتطوير التراث والإفادة منه لا الاستغراق فيه، مسخّراً أدواته النظرية في تصميماته التطبيقية، التي يتفاعل من خلالها الفكر مع المطلب الاجتماعي.
وأدرك أن المطلب الاجتماعي يصوغ علاقة الإنسان مع معماره بوصفه أفكار البنية الفوقية التي تنعكس من خلال العمران، ما يفرض الاختلافات بين عمارة أهل السلطان وعامة الناس، وكذلك عمارة الريف والمدينة، والساحل والداخل، وأن لهذا المطلب يتجلى في الجانبين العقائدي والمادي، حيث تتكيف في الأول الأفكار مع مرحلتها، وتتكيف في الثاني مع متطلبات الإنتاج في تلك المرحلة.
قدّم الجادرجي العديد من تصميمات المؤسسات والمعالم العامة والمساكن الخاصة في بغداد، ومنها النصب التذكاري للجندي المجهول (1959)، ومكاتب ومستودعات التبغ، ومبنى البريد المركزي (1975)، ودارة يعسوب رفيق (1965)، ودارة هديب الحاج حمود (1972) في بغداد، و"شركة التأمين الوطنية" في الموصل، إلى جانب قاعدة نصب الحرية ومبنى المجمع العلمي العراقي ومصرف الرافدين في العاصمة العراقية.
وعمل منذ تخرّجه في مكتب "الاستشاري العراقي" الذي أسسه بدايات الخمسينيات وتابع نشاطه فيه حتى سنة 1978، حين تفرغ للنشاط الأكاديمي، حيث درّس كأستاذ زائر لفلسفة الفن والعمارة في جامعتي "هارفرد" ولندن"، كما أسّس "مركز أبحاث الجادرجي" عام 1993 متفرّغاً للبحث والدراسات.
ألَّف الجادرجي العديد من الكتب حول العمارة، منها : "شارع طه وهامرسمث" (1985)، و"الأخيضر والقصر البلوري" (1991)، و"صورة أب - الحياة اليومية في دار السياسي كامل الجادرجي" (1991)، و"حوار في بنيوية الفن والعمارة" (1995)، و"المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار أو المعمار المسؤول" (1999)، و"مقام الجلوس في بيت عارف آغا" (2001)، و"في سببية وجدلية العمارة" (2006)، و"جدار بين ظلمتين" (2008).