ذكرى ميلاد: أنطونيو غالا فحسب

02 أكتوبر 2020
أنطونيو غالا في تكريم له عام 1998 (Getty)
+ الخط -

يوجد أشخاصٌ يَصعبُ، في العموم، إدراجهم تحت صفة أو اسم من الصّفات والأسماء التي عادّةً ما يبادرُ النّاس إلى إطلاقها على رجال الفكر والعلم والفنّ والأدب. ويعود هذا، بطبيعة الحال، إلى شعورٍ إنسانيّ عميق بأنهم أنواعٌ فريدة تسعى إلى الشّعور الكامل بذواتها. وهكذا لا يعتبرون أنفسهم كتّاباً، أو دراميين، أو روائيين أو شعراء. حتّى إنهم لا يطلقون على أنفسهم أيّ لقب. اسمهم فحسب.

هذا شأن أنطونيو غالا، فلا هو روائيٌّ؛ ولو أنّه بعد "المخطوط القرمزي"، و"غرناطة بني نصر"، و"الوله التركي" (الروايات الثلاث ترجمها وقدّمها إلى العربية رفعت عطفة وصدرت عن "دار ورد" السورية)، أثبت نفسه كواحد من أهمِّ الرّوائيين الإسبان؛ ولا هو مسرحيٌّ، على الرغم من عشرات المسرحيات التي تُرجمت إلى غير لغة أوروبية؛ ولا هو شاعر، مع أنّه في دواوينه "العدو الحميم"، و"شهادة أندلسية" و"قصائد الحب"، أقنع قرّاءَه أنّه شاعرٌ من الطراز الرفيع، لا سيّما من خلال قدرته على إثارة عوالم شعريّة يعجز عنها شعراء لهم باع طويل في الكتابة الشعرية. إنّه أنطونيو غالا فحسب. 

وحقيقةً، إنّ المتابع لسيرة حياة غالا ومشروعه الأدبي لن يستغرب هذا الشيء قط. فحياته قائمة على التنوّع والتعدُّد. لا يؤمن بالثبات، بل بالتحوّل. غير أنّه في تحوّله الدائم، وإنتاجه الأدبي الغزير والمتعدّد، نستطيع أن نجد فيه، سواء على الصعيد الشخصي أو الأدبي، جذراً عميقاً يمكننا من خلاله فهم هذه الشخصيّة الأدبية الفذة. هذا الجذر هو الأندلس.

أنطونيو غالا (1930)، وعلى الرغم من أنّه لم يولد في قرطبة، بل في إحدى قرى مقاطعة سيوداد ريال، برازتورتاس، على وجه التحديد، إلا أنّه لا يتردد في القول عن نفسه إنّه أندلسي الهوى، ولا سيمّا قرطبي، إلى درجة أن معظم الذين كتبوا سيرته الذاتيّة دوّنوا ولادته في قرطبة بناءً على رغبته الشخصيّة. "لسنا وحدنا في هذا العالم، ولا يمكننا الارتجال في كل شيء، إذ لا أحد يستطيع أن يتقدّم دون أن يتذكّر. لا يوجد مستقبلٌ دون ذاكرة. أحمل اسم الأمويّين في روحي، وعلى جبهتي اسم بني عبّاد، وفي قلبي محفورٌ اسم غرناطة بني نصر". يقول غالا.

كتب الأندلس وجعل منها موشّحاً إنسانياً وثقافياً

عاش غالا مراهقته وشبابه المبكر في قرطبة، هناك حيث لعبت التقاليد والثقافة الأندلسيّة دوراً هاماً في صقل شخصيته وتكوين معالم هويته الثقافية وشكل الأديب الذي سيكون عليه. من هنا كان هذا الاهتمام المستمر في الأندلس، بوصفها مكاناً للتسامح والانفتاح والترحيب. فالعرب، بالنسبة له، لم يغزوا الأندلس، ولم يفتحوها عسكرياً، بل حضارياً وإبداعياً. "لا يمكنني أن أفهم نفسي كإسباني دون الأندلس. الكثير من الإسبان لا يفهمون وجود الإسلام في إسبانيا، وحقيقة إنّ الفرضيّة التاريخية التي تقول باسترجاع الأندلس من العرب، معتبرين أنهم احتلوّها عسكرياً أصلاً، هي مغالطة تاريخية كبيرة. لقد طردنا، نحن الإسبان، الفرنسيين في خمس سنوات فقط. لا توجد حرب تحرير في هذا العالم تستمر قروناً. لا فائدة من محاربة ما هو داخل أنفسنا". يقول هذا العاشق الأندلسي.

لطالما كان "الواقع الأندلسي" أو الإسباني العربي، كما يحلو لبعض الباحثين الإسبان تسميته، محطّة تدعو للتأمّل والوقوف عندها مطوّلاً، وهذا طبيعي باعتباره يشكّل جزءاً من كيان إسبانيا التاريخي أقلّ ما يمكن أن يُقال فيه إنه جزءٌ فريد ومتميّز لم يتمكّن الزمن من سلبه بعده الرّمزي والدّلالي إلى يومنا هذا. غير أن هناك تياراً من الباحثين يتعامل مع الأندلس بوصفها أسطورةً، لا رمزاً حضارياً. وهذه النزعة مُضرّة، تحدّد الأندلس في إطار زمني معيَّن هو الماضي، ولا تتعامل معها بوصفها زمناً مفتوحاً لا حدود له. هنا يصدح صوتُ غالا في أعماله الروائية والشعرية ليؤكّد، ضمن هذا السياق، أنّ الأندلس، كرمز، تشكّل، مرجعاً مضيئاً وبهيّاً يجمع ما بين عراقة الماضي وبشرى المستقبل: الحقيقة الرمزية للأندلس تتفوّق بطبيعتها على شكلها الأسطوري. 

ضمن هذا السياق العابر للأزمنة والحدود تتشكّل هويّة غالا الثقافية والإبداعية. فالحياة، كما يفهمها هو نفسه، تُبنى على أمرين: التراث والمشروع. أي الماضي كفاعليّة إنسانيّة مؤثرة، والمستقبل. وهذان، بدورهما، يقومان على مفهومَي الصداقة بوصفها تعايشاً، والثقافة بمعناها الإبداعي. في الصداقة تُلغى الحدود والجذور والأزمنة. هكذا يفهم غالا التعايش العربي الإسباني الموروث، بوصفه صداقة انفتاح بلا نهاية، قامت، في الأساس، على التفاعل والحوار ونمت ببطء وكوّنت أعشاشها في أغضان الدم الذي لا يمكن نسيانه.

كأن أعماله الإبداعية قادمة من أماكن دفينة في ذاكرتنا

من هنا تبدو أعمال غالا الإبداعية كأنّها قادمة من أماكن دفينة من ذاكرتنا عادة ما نهملها. غير أننا ما إن نطّلع عليها حتى تبدأ الحوار والتّفاعل معنا، فتثير فينا أسئلة جوهرية، وتعلّمنا كيف نلتقي بأنفسنا وأبعادها. بهذا المعنى تأتي كتابات غالا لتكون أفلاكاً تتموّج في مدارات الذاكرة العربية وخارجها، لتكون جسراً يصل بين قرطبة الآن وربيعها الماضي، عملاً مفتوحاً يتجدّد في كلّ قراءة في ما وراء السياسة والسياسي. في ضوء هذا كله يقدّم غالا صورةً بهيّة عن الأندلس، لا بوصفها ماضياً حضارياً حيث التقت وتعايشت ثلاث ثقافات فحسب (العربية الإسلامية والمسيحية واليهودية)، بل بوصفها مستقبلاً وأفقاً في ما وراء الحدود الجغرافية والقومية. لقد كتب غالا الأندلس في رواياته وأشعاره وجعل منها موشّحاً إنسانياً وثقافياً، مزيجاً من عناصر مؤتلفة ومختلفة، عديدة وواحدة. استطاع أن ينسج في روايتيه "المخطوط القرمزي" و"غرناطة بني نصر" علاقة تربط بين الذكرى والرغبة والحلم.  في ضوء كتاباته نعرف أنَّ العرب موجودون في أبهى أشكال وجودهم في الأندلس وبعدها. 

من قرطبة، وعن تسعين عاماً (يدخل هذا النهار عامه الواحد والتسعين)، يتأمّل أنطونيو غالا اليوم في إيحاءات الأندلس- النص المكتوب والمرسوم والمنقوش والمُغنّى. بعد كتابه الأخير الصادر في عام 2017 تحت عنوان "قرطبة غالا"، قرّر التّأمّل والعمل بصمت في مؤسّسته الثقافية التي أسّسها استكمالاً لمشروعه الإبداعي العابر للحدود والأزمنة، حيث يستقطب كتاباً ومبدعين من كافّة الجنسيات ويُوفّر لهم مكاناً للتعايش والإبداع، تماماً كما هي الأندلس. قلّما نجد مثقّفين تشكّل أعمالهم وكتاباتهم وإبداعاتهم وحدة عضويّة متكاملة. هذا ما استطاع غالا أن يحقّقه في مشروعه الثقافي الذي يحمل عنوان الأندلس.

لا يسعني في وصف غالا وعلاقته مع الأندلس-الرمز إلّا أن أتذكر ما قاله أدونيس في قصيدته "اثنا عشر قنديلاً من أجل غرناطة" كخاتمة لهذا المقال. وهذا شأن كل خاتمة، تفتح، من جديد، آفاقاً لبدايات ثانية: "أصغِ، أيها الشاعر، إلى غرناطة/ أنت لم تعشق مساء ما مضى إلا لأنّك مأخوذ بصباح ما يأتي". 


* كاتب ومترجم مقيم في الأندلس

المساهمون