كانت صور حريق كاتدرائية نوتردام، دافعاً لتفكير الباحثة البريطانية ديانا دارك في تأليف كتابها "السرقة من الساراسين: كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا"، الصادر هذا العام عن "منشورات هيرست"، وألقت حوله محاضرة افتراضية مؤخراً بتنظيم من كلية "سواس" بجامعة لندن حيث حاورتها رئيسة قسم الدراسات الفلسطينية في الجامعة دينا مطر.
ذكرت مطر في تقديمها لدارك أنها ألفت هذا الكتاب مستندة ليس فقط إلى خلفيتها في تاريخ الفن، بل وأيضاً إلى حياتها في سورية لأكثر من ثلاثين عاماً، هي التي نشرت مؤخراً كتابين عن سورية الأول بعنوان "تاجر سورية: تاريخ البقاء" والثاني "بيتي في دمشق".
تقول دارك إنها تعرضت للانتقاد بسبب عنوان الكتاب، وتحديداً بسبب استخدام مفردة "سرقة"، ورأى منتقدوها أن لا حجّة مقنعة لديها لاستخدام هذا التعريف، وتضيف أن هناك مفارقة في العنوان نفسه لأن مفردة "الساراسين" كانت تستخدم للإشارة إلى اللصوص وهي مشتقة من كلمة سرقة نفسها، وهكذا يصبح عنوان الكتاب أكثر إشكالية أو بتعبير الكاتبة "سخرية مزدوجة" فمعناه ضمنياً "السرقة من اللصوص".
تكمل: "حين شاهدت صور مبنى كاتدرائية نوتردام يحترق وخرج الفرنسيون في وسائل الإعلام يقولون "هويتنا الوطنية تحترق"، قلت لنفسي مهلاً! ألا تدركون فعلاً أن قصة الفن القوطي Gothic art هذه تأتي من مكان بعيد في الشرق؟ ولأن من يعرف ذلك ليسوا كثراً، وجدت نفسي أكتب الكتاب لهذا السبب بشكل أساسي، لأشرح خلفيات الفن القوطي التاريخية".
عرضت المؤلفة خلال المحاضرة صورة تمثال لقديس مقطوع الرأس اسمه القديس دينيس، وهذا كان على واجهة نوتردام، وهو واحد من ثلاثة شخصيات تحمل اسم دينيس، وما يجعل الأمر طريفاً بتعبير دارك أن القصص عن الثلاثة اختلطت بسبب الاسم، لكن "الدراسات كشفت أن دينيس الحقيقي هو راهب في سورية من القرن الخامس، وهذا يعيدنا إلى الشرق حيث نشأت المسيحية".
تتوقف الكاتبة عند الكنائس الأقدم في سورية ما بين القرنين الخامس والسادس، والتي ترى أن الفن القوطي جاء منها، وتذكر بالتحديد مدينة دورا أوروبوس القريبة من دير الزور اليوم، وفيها أقدم كنائس التاريخ. ومنها يمكن فهم العمارة المسيحية المبكرة، كما عادت إلى آثار كنيسة قلب لوزة في محافظة إدلب التي كانت محجاً يأتي إليها المسيحيون من كل مكان.
تذكر دارك أن "أكثر الأماكن تأثيراً من المدن القديمة كانت أنطاكية التي كانت ميناء رئيسياً، وكانت مركز الموزاييك وكانت ذات تأثير كبير جداً على مدينة رافينا، في الحقيقة إن أقدم كنيسة لم تعد موجودة، وبنيت في القرن الرابع في أنطاكية كانت مصممة على شكل مثمّن، كانت هي نموذج التصميم المباشر لكنيسة سانت فيتالي في رافينا، ومن المعروف أن رافينا كانت مليئة بالسريان وقد وجدت أن قصص السريان فيها منسية ومهمشة ولم يلتفت إليها الباحثون، والتي تكشف التأثير الكبير للسريان على تاريخ المدينة، بل إن أسقف المدينة نفسه كان من أنطاكية، وكل أسقف في تاريخ المدينة القديم كان من سورية، حتى أن شكاوى كثيرة قدمت ضد وجود الكثير من التجار والمصرفيين القادمين من سورية".
الابتكارات في مسجد قبّة الصخرة تتجاوز العمارة البيزنطية
تروي الكاتبة كيف تأثر شارلمان بتصاميم الكنائس في رافينا، وطلب بناء كنيسة بالاتين في مدينة آخن ثمانية الشكل على غرار تلك الكنائس، وتؤكد "من يدخل كنيسة بالاتين يلمس ذلك الملمح الشرقي في الألوان والتصاميم، فهو تصميم ينتمي إلى الكنائس التي كانت في سورية فقط".
تعود دارك إلى العصر الأموي، وإلى تأثر المسلمين بإرث التاريخ ما قبل الإسلامي، وتقول: "كان البيان السياسي المعماري الأول للأمويين بناء مسجد قبة الصخرة في القدس، قد يقول البعض إنه مجرّد نسخة من التصميم البيزنطي، لكنه أبداً ليس كذلك، صحيح أنهم استخدموا الشكل الثماني والقبة، لكن كل الموزاييك الزخرفي على البناء من الخارج كان جديداً جداً، ولم توجد من قبل في الأبنية البيزنطية زخرفة على البناء من الخارج، بل كانت الجدران فارغة تماماً والموزاييك كله في الداخل".
تشير الباحثة إلى ابتكار آخر في مسجد قبّة الصخرة، سيكون مهماً جداً لاحقاً في الفن القوطي، فتقول "في الرواق السفلي ثمة أقواس جانبية والجديد هي الأقواس تحت القبّة نفسها".
تروي إن المسلمين عندما دخلوا أول مرة إلى سورية شاركوا المسيحيين في الكنائس، وتقول إن المصادر تلفت إلا أن المسيحيين ظنوا أن المسلمين هم طائفة من الطوائف المسيحية ولم يدركوا للتو أنهم دين مختلف، وتروي كيف كان المصلون مسلمين ومسيحيين يدخلون إلى الكنيسة ويذهب كل إلى جهة مختلفة ليقيم صلاته، وهنا تتوقف المحاضرة عند بناء الجامع الأموي، فهو مصمم بحيث يجمع عمارة الكنيسة والجامع معاً، تقول: "كان المسلمون يقدرون الثقافة التي يأتون إليها ويندمجون معها، حتى منارة الجامع الأموي كان اسمها منارة عيسى".
عرضت الباحثة صوراً من الموزاييك الداخلي للجامع الأموي، وكشفت "التمازج فيه بين الثقافتين المسيحية والإسلامية، ففي جانب منه موزاييك بيزنطي تقليدي، صوّرت فيه الرؤية الإسلامية للفردوس مليئة بالأنهار والحدائق، وتحت هذا الموزاييك القوس الثلاثي الذي كان يمثل في الكنائس عقيدة التثليث، لقد تشرب المسلمون ومزجوا كل شيء، كما أن البناؤون أنفسهم كانوا مسيحيين ومزجوا ثقافتهم في البناء أيضاً". تتوقف دارك عند ابتكار آخر في الجامع الأموي، وهو الشبابيك الهندسية المزخرفة والتي وصلت بالتدريج إلى أوروبا، ونراها في البندقية مستعملة بكثافة.
قدمت الباحثة ابتكارات معمارية أخرى في العصر الأموي، ليست في الأماكن الدينية فقط بل في القصور، وضربت عدة أمثلة؛ تقول: "في قصر هشام في الضفة الغربية المحتلة اليوم في أريحا، ثمة نافذة رأى فيها الباحون أقدم مثال تاريخي على النافذة الوردة، وقد وجدت شظايا من الزجاج الملون في أعمال التنقيب تحتها، وهذا دليل على أنها كانت تستخدم للتلاعب بالضوء وزخرفة انعكاساته. سيأخذ الأمر خمسة قرون قبل أن يبني الأوروبيون النافذة الوردة الأولى في كاتدرائية شارتر الفرنسية"؛ وهي تفصيل معماري يعد اليوم من أبرز معالم الفن القوطي ويوجد نموذج منها في كنيسة نوتردام باريس.
تذكر الباحثة اكتشافاً لم يكن متوقعاً، "فقد جرى اختبار وتحليل الزجاج في الكاتدرائيات الفرنسية وبعض البريطانية في يورك وكانتبري، والتي يعود بناؤها إلى القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وكشف ذلك التحليل عن أن الزجاج يحتوي ما يسمى بالتوليفات الإسلامية، وذلك لأن المواد الخام كانت تأتي من سورية وبالتحديد الرقّة - التي لا نعرفها اليوم إلا من وجود داعش فيها- حيث كانت المركز الأكبر والأفضل للزجاج، والسبب يعود إلى جودة المواد والنباتات التي كانت تستخدم لصناعة هذا الزجاج السميك العضوي والقوي والذي يحتوي على الفقاعات، وقد اكتشف الصليبيون في القدس هذا الزجاج وحملوه معهم في السفن إلى أوروبا".