تناولنا في المقال السابق زيارة السلطان القاجاري مراد ميرزا، الشهير بلقب "حسام السلطنة" إلى مصر، والتي حظيت بحيز كبير من نص رحلته الكبرى المعنونة بـ"سفرنامة مكة". ومن القاهرة رافق حسام السلطنة محمل الحج المصري إلى الحجاز وأدى الفريضة. وبعد أن ختم حجه بزيارة قبر الرسول في المدينة، قرر أن يرافق محمل الحج الشامي هذه المرة، فمر في طريقه على تبوك، ومعان، وبعض المحطات الخالية من السكان بين الكرك والرمثا. ولا يشير إلى مدينة عمان بل إلى محطة البلقاء، كونها كانت في ذلك الوقت خرائب أثرية استوطنها للتو بعض المهاجرين الشراكسة، ولكنه يصف لنا بعض الأعمدة الأثرية التي رآها على الطريق، ولعله يشير في ذلك إلى مدينة جرش قبل أن يتم الكشف عن كنوزها.
وفي مقالنا هذا سنتناول وصفه لمدينتي دمشق وبيروت اللتين قضى فيهما بعض الوقت في مطلع العام 1881، قبل أن يتوجه لزيارة بيت المقدس، كونها كانت زيارة محبذة، وتعد في عرف الكثيرين متممة لفريضة الحج. وقد انطوت هذه الرحلة على معلومات مهمة عن بعض معالم دمشق في ذلك الوقت، والتي لم تعد موجودة منذ عقود طويلة، مثل بوابة الميدان، وحي سيدي عامود وقصور آل القوتلي التي احترقت في العام 1925 بالقصف الفرنسي للمدينة وبات اسم هذه الناحية حي الحريقة منذ ذلك الوقت، وكذلك وصف لنا حديقة الأمة التي كانت تعد معلماً مهما من معالم دمشق السياحية. وفي بيروت نجده معجباً جداً بالمدينة ونهضتها، حيث يقول إنها بنيت قبل 20 عاماً، انتهى بناؤها قبل خمس سنوات، وهي معلومة لافتة، إذ إن بيروت كانت مأهولة قبل هذا التاريخ بكثير، ولكنه ربما يشير إلى الأحياء والمرافق الجديدة التي نشأت بعد العام 1860.
يذكر أن هذه الرحلة صدرت باللغة الفارسية عام 1952، وترجمها إلى العربية عبد الكريم جرادات، وستصدر قريباً عن "دار المتوسط"، حيث كانت إحدى الرحلات الفائزة بـ"جائزة ابن بطوطة" المخصصة لأدب الرحلات في دورتها الأخيرة.
استقبال رسمي
حظي السلطان القاجاري باستقبال رسمي في محطة الكسوة التي تعد من أهم محطات طريق الحج، شاركت فيه مختلف الوحدات العسكرية المرابطة حول المدينة، بالإضافة إلى كبار الضباط والموظفين. ومن هناك توجه بصحة مرافقيه إلى دمشق، وقد وصف لنا المنظر الذي رآه وهو متجه إليها من مدخلها الجنوبي باتجاه حي الميدان بقوله: "وصل كل من سعيد باشا وأمين الصرة، فانشغلت بالحديث معهما، طال مكوثنا في الكسوة لساعتين ثم انطلقنا. عند مغادرتنا كانت الأرض ذات انحدار وارتفاع، لكنها خلابة المنظر تسر عيون الناظرين، ويمين الطريق كان أوسع من يساره. حين وصلنا بداية المنحدر تكشفت لنا معالم المدينة، وظهرت الحدائق التي تحيط بها. تمتد الغابات على طول الخط الشمالي، وتكسو سفوح الجبال. كان سهلاً رحباً في غاية الجمال، معظم بساتينه من أشجار الزيتون والتفاح والأجاص والسفرجل، ورأينا عمارة في وسط السهل من بعيد قيل إنها قصر لأحد أعيان المدينة". ويبدو أنه يشير إلى قصر صالح آغا المهايني خارج حي الميدان.
ويتابع وصفه للطريق بعد أن يعدد أسماء الوفود الدبلوماسية الأجنبية المقيمة في دمشق، والتي حضرت لاستقباله في محطة القدم فيحدثنا عن بوابة الميدان المندثرة الآن والتي لم يبق منها سوى اسمها، وسوق الميدان الشهير، حيث يقول: "على مقربة من مدخل المدينة هنالك مقبرة على اليمين، وثكنة عسكرية على اليسار، ثم بلغنا البوابة التي بنيت على شكل هلالين وبدون مصاريع أبواب خشبية أو حديدية، فولجنا شارعاً يبلغ طوله ما يقارب ربع فرسخ، على طرفيه حوانيت وعمارات شيدت على نسق الأبنية الإيرانية، والغرف الداخلية كانت بلا نوافذ تفتح نحو الشوارع والأزقة، كان طرفا الشارع الذي نسلكه مليئَين بالناس، وسقوف العمارات التي يتخللها الشارع مكتظة بالرجال والنساء جاءوا للاستقبال والتفرج، حتى أن البعض منهم كان قد استأجر دكانا ليجلس فيه ساعة الاستقبال. كانت الطريق مزدحمة إلى الحد الذي لن تجد فيها ممرا غير ممر العربة".
قصر حسن القوتلي
وبعد ذلك يصل إلى أسواق دمشق الجنوبية، ويشبهها بالأسواق الإيرانية، ويمتدح بشدة سوق مدحت باشا الذي لم يمض على افتتاحه إلا عام واحد، ثم يخبرنا بأن قصر الوجيه الدمشقي حسن قوتلي خصص لإقامته، وفور وصوله تناول الطعام بغرفة موشاة بالزينة برفقة أصحاب المناصب الذين قدموا لاستقباله، وذهب مساء إلى حمام في السوق، كان قد تم إخلاؤه له بأمر من حكومة الشام. وقد امتدح حمامات دمشق وقال إنها "في غاية روعة التصميم والرونق بحيث يعجز اللسان عن وصفها، خرجت من الحمام بعد مضي ساعة من الليل".
وفي وصفه لقصر حسن القوتلي يقول إنه "يضم ساحتين خلفيتين، وساحة رئيسية مستطيلة محاطة بالغرف الأرضية والعلوية من الجهات الأربع، وقد نصبوا على الجدران سياجات حديدية من كل الجهات، وفي وسط الساحة المرصوفة بالأحجار المشجرة الشفافة حوض مستدير، وهذا النسق متداول في كل أرجاء الشام، إذ كانوا يقومون بتزيين أرضيات العمارات والحمامات بالأحجار الموشاة. على مقربة من النوافذ غرسوا أشجار السرو والزهور، وعملوا منها أشكالا هلالية، وأحاطوها بالحجارة لتسهيل سقايتها باليد، لقد كانت عمارة جميلة ذات صفاء وبهاء، وقلما تجد بناية تماثلها. إحدى الساحات الخلفية كان لها معبر إلى الزقاق الخارجي ومنه إلى الساحة المستطيلة، والثالثة كانت خاصة بنوا فيها صالونا في وسطه حوض ماء كانوا يسمونه القاعة، وهو في حقيقته لا يعدو أن يكون غرفة مسقفة ومذهبة في وسطها حوض للمياه المتدفقة، ولأن الجو بارد غطوا الحوض بلوح خشبي يعلوه قماش من الحرير الأحمر، فأصبح على هيئة طاولة، كانت الغرفة مزينة بأصناف الأواني الصينية المصفوفة على الرفوف، وهي في غاية التميز".
متنزهات المرجة
كما هي عادته يستعين حسام السلطنة (الصورة) بكتب ومراجع تاريخية عند حديثه عن البلد الذي يصفه، وقد استرسل في ذلك فيما يخص دمشق، ولكنه عاد ليحدثنا عن مشاهداته وقد بدأها بمتنزهات الشام: "لصفاء ماء الشام وطيب تربتها، ولطافة أجوائها، تعددت متنزهاتها التي تتوزع في أحيائها، منها متنزه الصوفانية، والطَربلة، والمَرجة، والرَبوة، وهو أفضلها، ويعتقد البعض أن آية قرآنية كريمة تشير إلى الربوة الموجودة خارج مدينة الشام".
وقد وصف لنا بشيء من الإعجاب متنزهات المرجة بما فيها حديقة الأمة التي افتتحها قبل عام من ذلك الوالي المقال مدحت باشا حيث يقول: "عندما تعبر من محاذاة بردى، وعمارة والي الشام، وتتخطى الجسر يبدأ نهر المرجة، رصفوا جانبيه بالحجارة حتى مسافة أربع مئة قدم، ووضعوا القناطر قرب بدايته وفي وسطه وقبل نهايته، القنطرة الأولى والأخيرة من الحجارة، ولكل منهما ثلاث عيون، والقنطرة الوسطى صنعت من الحديد، وقد أحكموا بناءها وأقاموا عليها جدارا من الجانبين، ولا عيون لها. يبلغ عرض النهر عشرة أذرع، وعلى جانبيه تكثر العمارات والبساتين، وحديقة مدحت باشا تقع على يساره والتي تسمى الحديقة الوطنية، تتوسطها عمارة مفتوحة الأطراف الأربعة، يضم طابقها الأرضي غرفاً، والطابق العلوي عبارة عن شرفة ليلية طلقة من جميع الجهات. بعد النهر، وإلى جانب جبل كسيب الحمراء ندخل الربوة التي يجري من خلالها الماء، وقد كستها الخضرة، وجللتها النضارة من الجانبين، وتكثر المقاهي على الضفتين، وتنتشر العمارات حولها. يضفي متنزه الربوة على النفس صفاء ونقاء، ويشحن زائره بالحيوية والنشاط، ويبعث في داخله السرور. وعند اجتياز الربوة تبدو ساحة دُمَّر ذات الأجواء اللطيفة، والطبيعة الخلابة، وفيها بعض العمارات".
ويخصّص حسام السلطنة حيزاً مهما من رحلته لوصف المسجد الأموي وتاريخه، وكذلك مقام السيدة زينب، ومقام السيدة رقية، وما يدور حولهما من روايات شعبية. كما يصف لنا ضريح ومسجد محي الدين بن عربي في الصالحية، ويشير إلى زيارته للأمير عبد القادر الجزائري في منزله داخل سور دمشق.
شركة النقل الفرنسية
يحدثنا حسام السلطنة عن استعدادات السفر إلى بيروت ويجدها مناسبة ليحدثنا عن شركة الديلجانس الفرنسية التي استثمرت الطريق، إذ يقول: "تبلغ مسافة الطريق من الشام إلى بيروت مئة وعشرة كيلومترات، عبدت هذه الطريق من قبل الشركة الفرنسية، ومع وجود المنحدرات والمرتفعات إلا أنهم قاموا بتسطيح المنعطفات وفقا للقوانين الهندسية كي تسير العربات بمنتهى السهولة، وقد بدا الجهد جلياً بالنظر لتضاريس المنطقة. وضعت الشركة شرطا بتملك الطريق حتى أربعين سنة كي تستوفي الميزانية التي أنفقتها بقيمة مليوني فرنك، مرت منه حتى الآن ثماني عشرة سنة، وبقيت اثنتان وعشرون سنة، وقد كانت أكوام الحصى الصغيرة، وآلات التعبيد جاهزة في كل مكان لإصلاح العيوب الطارئة على الفور. تتخلل الطريق من الشام حتى بيروت اثنتا عشرة محطة هي: الهامة، مَيسلون، جديدة، المَصنع، جسر زينون، شتورة، المُريْجات، خان مراد، صَوفر، خان بودخان والجمهور، وجميع العاملين فيها فرنسيون. كل محطة مزودة بإسطبل ومقهى وبيت ضيافة، فقد كنا نستبدل الخيل في هذه المحطات، كما يتم تبديل الجنود الثمانية الذين يرافقوننا. الطريق مريحة للسير، وتزيدها ارتياحا السهول والجبال التي تبدو من جنباتها وكأنها حدائق غناء، تكثر أشجار الصنوبر والجوز وغيرها من الأشجار المزهرة، فتضفي جمالا خلابا يريح النفوس".
وصف بيروت والاستقبال الحاشد
لدى وصوله إلى بيروت، يتحدث حسام السلطنة عن استقبال رسمي حافل في محطة الجمهور في جبل لبنان، حيث ركب في عربة المتصرف نعوم باشا منطلقين إلى حدود المتصرفية التي تبعد مسافة ربع ساعة عن حدود مدينة بيروت التابعة لولاية سورية، ويقول: "رأينا ما يربو على خمسة آلاف شخص رجالا ونساء من النصارى وغيرهم راجلين ومستقلين العربات جاءوا لحضور الاستقبال، كان الرجال والنساء يجلسون معا في العربات، ووجدنا مجموعة من العساكر اصطفت مع الفرقة الموسيقية لأداء التحية العسكرية، وبعد حفل الاستقبال غادرنا".
وفي بيروت خصصت الحكومة لحسام السلطنة منزل الحاج محي الدين نجل المرحوم سيد عبد الفتاح العربي، وقد وفروا فيه كل أسباب الراحة من أرائك وأدوات. ويقول: "كانت العمارة جميلة، فيها جنينة منمقة أخاذة، وإلى جانبها بناء مسقف، جلسنا في غرفة أرضية وانشغلنا بالحديث مع الحضور، ثم قصدنا البناء المسقوف لتناول الطعام. جاءني وفد من بيروت لاستقبالنا وتقديم التهنئة بمناسبة دخولنا المدينة يضم الشيخ عبد الله المجتهد العاملي، وهو رجل مُعمّر يناهز الثمانين عاما، وبرفقته درويش بيك، ونعيم بيك، يرافقهم أحد الملالي من جبل عامل. جبل عامل هو موطن الحرّ الشهيد، والشيخ البهائي، فلم يبق من قبيلة الشيخ البهائي أحد، وقبيلة الحر ما زالت باقية".
وحول مدينة بيروت يقول: "فيها مدارس كثيرة، فقد أنفقت كل من بريطانيا وفرنسا وأميركا وألمانيا الكثير من الأموال لإنشاء مدارس لتعليم الطالبات من طوائف الروم الأرثوذوكس والكاثوليك والأرامنة، وتوجد في المدينة إحدى عشرة مطبعة تقوم بطباعة الجرائد والصحف، وفيها خمسة عشر جامعا، وثلاث وعشرون كنيسة، والعديد من الآثار التاريخية التي ما زال معظمها تحت الأرض، فكلما قاموا بعملية تنقيب عثروا على أعمدة وأحجار عظيمة تدل على آثار جديدة. يمر من شرقها نهر تبلغ المسافة إليه مسير نصف ساعة، إلا أن مياهه ليست سائغة، وعلى مسافة أربع ساعات إلى جهة شرق المدينة ينحدر نهر الكلب عذب الماء من جبل قسردان، وقد استثمرت الشركة البريطانية في النهر فأوصلت الماء إلى المدينة، ومن ثم إلى البيوت عبر أنابيب حديدية، وتستوفي ثمن كل متر من الأنابيب مئة وخمسين فرنكا سنويا، وقبل ذلك كانت تعاني البلدة من شح المياه".
ويضيف: "لا سور يحيط ببيروت، تلك البلدة الجميلة، ولا قلاع فيها، وقد بدأ إعمارها قبل عشرين سنة، وانتهى العمل فيها قبل خمس سنوات، وهي تتمتع بحدائق وعمارات ذات رونق، وغالبا ما تكون أسواقها محاذية للمرفأ. مناخ بيروت لطيف، إلا أن مناخ الأماكن الأخرى في لبنان أفضل من مناخها ومن مناخ الشام، فمعظم أعيان الشام وبيروت يقصدون الأطراف للاصطياف".
على السفينة إلى يافا
ومن بيروت ركب حسام السلطنة الباخرة متوجهاً إلى يافا لزيارة القدس الشريف، وقد وصف لنا ذلك بقول: "كانت المسافة نصف ساعة من مرفأ بيروت حتى مرسى السفينة التي صعدنا متنها عند الغروب، كان الجو والبحر بما تشتهي السفن. تتميز هذه الباخرة عن السفن الأخرى بعدة امتيازات، إحداها أن القمرات كانت مزودة بنوافذ لدخول الهواء، والميزة الأخرى أنهم وضعوا وسط القاعة مدفأة متصلة بمدخنة مصنوعة من أنبوب حديدي يخرج من السقف، فدائما يكون جو القاعة دافئاً، والمناضد كانت مصفوفة على الأطراف، والوسط فارغ لتسهيل حركة النادل وتنقله، اسم قبطان السفينة وِليت، واسم محرك رافعة الأثقال ميسيو كيران. سرعة السفينة عشرة أميال في الساعة، وتصل قدرتها إلى ثلاث مئة حصان، ومزودة بأربعة قدور للبخار، يبلغ طولها مئة وستة أمتار، وعرضها ستة أمتار، أبحرنا بصورة رائعة ليلاً، ومررنا بمحاذاة ميناء حيفا وصور فصيدا. يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر، وصلنا مرفأ يافا بعد طلوع الفجر".