دروس أنطوان كومبانيون: أن يصل "شيطان النظرية" إلى ثقافتنا

21 ديسمبر 2021
أنطوان كومبانيون في 2016 (جاك دومرتون، Getty)
+ الخط -

تفصلنا ثلاثة وعشرون عاماً عن صدور كتاب أنطوان كومبانيون "شيطان النظرية: الأدب والحسّ المشترك" لأوّل مرّة ("منشورات سوي"، باريس، 1998). كتاب حقّق لصاحبه الكثير من الشهرة (بفضل السجالات والقراءات الرصينة معاً)، فهو - إذا استعرنا عبارةً كافكوية - يهوي بفأس على بحيرة من جليد، وما هذه البحيرة المتجمّدة إلّا استعارة تودّ أن تُنبّهنا إلى حال الدراسات الأدبية نهاية القرن العشرين، والتي كثيراً ما تتكلّس مناهجُها وتقنياتها ومقارباتها وتتحوّل إلى تعاليم منزّلة، فتُبعد الأدب عن الناس في الوقت الذي تحاول أن تشرحه لهم.

يحدث ذلك دون أن يشعر أحد تقريباً، لا المؤلّفون، فهم غالباً غير مَعنيين بما يقوله الباحثون عن الأدب، ولا الباحثون أنفسهم، فهؤلاء مطمئنّون إلى نجاعة جهاز من المفاهيم والمقاربات، يمكن تسميته بشكل واسع بـ"النظرية الأدبية". في كتابه، يدخل كومبانيون (1950)؛ أستاذ الأدب في جامعاتٍ فرنسية وأميركية، مغامرة فحص هذا الجهاز، وأبعد من ذلك: يستقصي علاقة الباحث المعاصر بالنظرية وكيف ينبغي لها أن تكون.

نقْلُ إشكالية كتاب "شيطان النظرية" إلى سياق ثقافتنا العربية سيجعل منه إشكاليّة مضاعفة، فالنظريات التي يضعها المؤلّف تحت مجهر التمحيص (موت المؤلّف، محاكاة الواقع، أفق الانتظار...) هي نظريات مُعتمَدة في البيئة البحثية العربية، وبالتالي من المطلوب أن توضع تحت محكّ النقد، وهي إلى ذلك نظريّات مستوردة انطلقت من نصوص روسو وبودلير وبالزاك وبروست وإليها عادت، لكنّها تُطَبَّق على نصوص عربية وكأنها خُلقت لها. فإذا كان كومبانيون قد عمل على إيقاظ الباحثين في الأدب من غفوتهم تجاه النظريات التي وجدوها في بيئتهم، فما أولى ثقافتنا بعملية الإيقاظ هذه نحو نظريات أتتنا جاهزة للاستعمال.

بعد أكثر من عقدين من ظهوره، وصل كتاب "شيطان النظرية" إلى الضادّ، حيث صدرت النسخة العربية منه مؤخّراً عن "دار الكتاب الجديد" بترجمة حسن الطالب. تأخيرٌ ليس كبيراً على السلّم الزمني لوصول الترجمات، فنحن نعرف أن كتابات مهمّة وصلت بعد عدد أكبر من العقود إلى العربية، لكنّ موضوع كتاب كومبانيون يلمس مسألة حارقة كان يُفترض أن تدعو للتعجيل، فالوعي الفاحص الذي يدعو إليه الباحث الفرنسي من أولويات حياتنا الثقافية؛ وعيٌ ضدّ استهلاك النظريات ووعي دون الوقوع في عدوانية تجاهها.

ليس من دور النظريّات الأدبية أن تكون شرطي الأدب

عربياً، لسنا في حاجة إلى شيطنة النظرية لسبب بسيط هو أننا قليلا ما نُنظّر، لكنّ هذا الوضع هو الذي يزيد من أهمّية وصول "شيطان النظرية" إلينا. فعدم توفير غطاء نظري مُنتَج داخلياً لمشاكل حياتنا الأدبية يجعلنا في حاجة أكبر للانتباه إلى ما نُعمله في نصوصنا.

في مثل هذا الطرح، تبدو مسألة التأخّر التنظيري خاصّة بالثقافة العربية، لكنّ كتاب كومبانيون نفسه يشير إلى أن فرنسا كانت هي الأخرى نموذجاً للتأخّر هذا. فضمن محاولة بناء مشهد تاريخ التنظير الأدبي في فرنسا، يلاحظ أنها عاشت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حركة تدفّق نظري، كان أبرز أعلامه رولان بارت، وجيرار جينيت، وجوليا كريستيفا، وكلود بريمون، ورونيه جيرار، وتزفيتان تودوروف. لكنْ قبل هذه الموجة، كانت فرنسا متأخّرة، تستهلك ما يُنتج في روسيا وألمانيا والبلاد الأنغلوساكسونية، وأكثر من ذلك كانت هناك حواجز تحول دون وصول الفكر النظري في الأدب إلى فرنسا. يستشهد هنا بأن كتاباً مرجعياً مثل "النظرية الأدبية" (أوستين وارن ورونيه وارن، 1949) لم يصل إلى الفرنسية إلّا عام 1971، بعد أن وصل إلى لغات كثيرة يُعدّدها وكأنه يمعن في توضيح هذا التأخّر، فيذكر الإسبانية والإيطالية واليابانية واليونانية والرومانية.

لا يكتفي كومبانيون  بالإشارة إلى التأخير بل يقدّم تفسيراته له، منطلقاً من ملاحظات المنظّر الأدبي الألماني ليو سبيتزر الذي أشار إلى أن هيمنة الفكر الوضعي قد خنق الحسّ التنظيري في الثقافة الفرنسية، ومن ثم تظهر عوامل أخرى مثل الشعور بالتفوّق الثقافي، وجعل النصّ محور العملية الأدبية والنقدية والبحثية، ما أنتج غرقاً في الشكل، والفصل بين الأدب والفكر، وكان من نتائج ذلك عدم تلقّي عناصر أساسية للتنظير الأدبي، أبرزها تطوّرات فلسفة اللغة.

هل سيعيد الضجرُ الرغبةَ في التنظير الأدبي من جديد؟

مقابل هذا التأخّر ظهرت في الستينيات طفرة تنظيرية كانت أشبه بكرنفال من المفاهيم والمقاربات، وهنا يُدخل كومبانيون نبرة ذاتية لكتابه، حيث ينطلق من ملاحظاته كشاهد عيان على تلك الفترة التي شهدها وهو طالب جامعي (أطروحته كانت تحت إشراف جوليا كريستيفا، وكان أحد المقرّبين من رولان بارت). لكنّه حين يعود إلى موقع المؤلّف في نهاية القرن العشرين، يجد أن ذلك التيّار المتدفّق من التنظير قد توقّف، فقد أفضى إلى مجموعة من المناهج والتقنيات التي يستعملها الجميع مثل علبة أدوات ميكانيكية.

مرّة أخرى، ينهمك صاحب "بروست بين قرنين" بتقديم تفسيرات. يَذكر أن رموز موجة التنظير في الستينيات والسبعينيات قد أخذتهم مذاهب شتّى، فاتجهت كريستيفا إلى علم النفس، وتودوروف إلى الأنثروبولوجيا والأخلاق، وجينيت إلى الجماليات. لكنّ ذلك ليس سوى سبب ظاهري؛ بالنسبة إلى كومبانيون هناك قدرٌ - بالمعنى الذي تمرّره المآسي الإغريقية - كان يمسك بمصير هذا التدفّق النظري، لأن التجمّد هو مصير كلّ فكر نظري. فهذا الأخير يسعى إلى الانتشار ويكون دخوله إلى المنظومة التعليمية عنوانَ انتصاره، ومن ثمّ يؤدّي هذا الانتصار إلى تجميده وتعليبه. يشير هنا إلى أن رولان بارت نفسه، مُطلِق تيّار "النقد الجديد"، قد جرت قولبته وقوننته وتلخيصه في وصفات. 

مع هذا الوضع، وصلت النظرية الأدبية التي جرى إنتاجها في فرنسا إلى نهاية القرن باهتة باردة وغير قادرة على الانقضاض على ما في لنصوص من ضمنيات وأفكار. باتت تنتظر التلاميذ والطلبة كي يستعملوها كأداة تشريح للنصوص تحت أنظار أساتذتهم، دون أن يعني ذلك إدانةً من كومبانيون. فمن أدوار النظريات، حين تدخل مؤسّسات تعليمية، أن تعمل على طمأنة الطلبة وشغْلهم بأمور مضمونة النتائج. ومن ثمّ يتساءل إنْ كان الضجر أو العودة إلى مربّعات الشعور بقلّة المعرفة سيُعيد الرغبة في التنظير من جديد؟

شيطان النظرية

هكذا تحضر في كتاب كومبانيون بوليفونية كالّتي التقطها ميخائيل باختين في روايات دوستويفسكي. لا يتّخذ الناقد الفرنسي موقفاً إلّا لكي يجريه بين المقولات المضادة. وهذه البوليفونية تبدو مستلهمة من فكرة الكتاب ذاتها، وهي تصوير الصراع بين الجهد النظري من جهة، والأدب كما يجري تلقّيه بشكل عفوي من جهة أخرى.

تدور فصول هذا الصراع، كما رسمها المؤلّف في ستة مربّعات يرى أنها ترسم مجمل مشهد إشكالات الأدب في القرن العشرين: الأدبيَّة، والمؤلّف، والعالَم، والقارئ، والأسلوب، والتاريخ، والقيمَة. في كلّ مرة يظهر كيف أن النظرية الأدبية ترفض الأحكام المسبقة للحسّ المشترك، كأنْ تذهب لتفنيد أن يكون المؤلِّف سُلطةً، أو تكون القراءة عملية تفاوض بين القارئ والمؤلّف، أو أن يكون الأسلوب مجرّد انتقاء. إنها تُجاهد من أجل أن تفتح ما أغلقه وثبَّتَه الحسّ المشترك، ولكن ما أن تبتعد قليلاً حتّى تعود الأمور كما كانت. الأمر أشبه بصراع كلّ منجز بشري مع عوامل الطبيعة. 

وإذ يشرح هذه المسائل، لا يفتأ كومبانيون أن يكسر كلّ روتين، كأن يتذكّر في هذا السياق أسئلة أحد معلّميه في مدرسته الأولى؛ تلك الأسئلة البسيطة: كيف تفهمون هذا المقطع؟ ما الذي أراد أن يقوله الكاتب؟ أيّ جَمال في هذا البيت الشعري؟ ما الذي يجعل من نظرة مؤلّفٍ جديدةً؟ ما الذي يودّ أن يبقيه في أذهاننا؟ 

يرى كومبانيون أنه قد ساد اعتقاد بأن النظرية الأدبية قد خلّصتنا من هذه الأسئلة ولكن "ذهبت الإجابات وبقيت الأسئلة". إذن، ما الذي كانت تفعله النظريات كلّ هذه السنوت؟ يجيب الأستاذ السابق في "كولّج دو فرانس" بأنها كانت تنظّف المصطحات من الاستعمال اليومي، وهكذا يصل بنا إلى قلب رحى إشكاليّته: ذلك الصراع بين النظرية الأدبية والحسّ المشترك، وليست النظرية الأدبية وحدها التي تخوض هذا الصراع، فمجمل العلوم يقف في الجبهة ذاتها. يعقد هنا مقارنة بين النظرية الأدبية والمنطق، فهذا الأخير بإمكانه أن يُقصي الخطاب اليومي من معجمه، في حين أن النظرية الأدبية تظلّ واقفة على أرضيته لا تستطيع مغادرتها وإلّا أضاعت هدفها في تفسير الأدب.

لا يعني ذلك أن المعركة خاسرة، فالنظريّ يَظلّ ضرورة من منطلق مقولة لينين بوجوب "تطوير النظرية كي لا نكون متأخّرين على الواقع". يعود المؤلّف لفحص النظرية من زاوية علاقتها بالممارسة مؤكّداً أن العلاقة بينهما لا ينبغي أن تقوم على تجاذب، ويشرح ذلك بمثالٍ بسيط حول تعلّم السياقة؛ النظريّ هو دروس قانون الطرقات والعمليّ هو تمارين السياقة. وكما أن معرفة قانون الطرقات لا تعني القدرة على السياقة، فإن النظرية الأدبية لا تعلّم كيف تكتب الروايات والأشعار. 

هكذا يؤكد كومبانيون على ضرورة نهاية الخصومة العبثية بين المنتصرين للنظريّ أو للممارسة، فلا معنى أصلاً لانتصار هذا أو ذاك (الأمر يسري على الأدب كما على السياسة أو غير ذلك). تُنهِك مثل هذه الخصومات الحياة الأدبية فتُرفع بلا حساب شعارات مثل نهاية الأجناس وإسقاط سلطة الناقد وموت المؤلّف، وما ذلك إلّا من مظاهر عدم فهم النظرية، فهي بحسب كومبانيون ليس من دورها أن تكون شرطيّ الأدب، ويعني إقصاؤها إهدار فهم الثابت بين المتغيّرات.

أبعد من ذلك، يشير صاحب "مفارقات الحداثة الخمس" إلى إشكالية فهمنا للنظرية باعتبارها منهجيةً للتطبيق. بالنسبة إليه، ليس دور النظرية تسهيل الأمور على الباحثين ولا إسناد شهادات لمَن يمتلكون القدرة على استعمالها. إن هدفها هو تطوير انتباهنا لكلّ ما وراء الجاهز، وهنا مكمن صراعها غير المحسوم مع الحسّ المشترك؛ هو يعمل عفوياً على شيطنتها ليحفظ على ثباته (من هنا عنوان الكتاب)، لكنْ دون هذا التهديد من الحسّ المشترك لن يكون للتنظير أيّة قيمة. كأنّ كومبانيون يؤكّد بأنه لا ينبغي لباحث أن يكون خادماً لهذا ولذاك.

يعتبر الناقد الفرنسي أن النظرية لا تخلو من جانب عملي، وهو ما يؤكّده من استعمالاتها السجالية، فالذهاب إلى التنظير هو محاولة لخلخلة ما يقوم به الآخر من أشكال الممارسة الأدبية. إطلاق نموذج نظري جديد يبثّ الشكّ في القديم، باعتبار أن وجود نموذج مغاير تبُاركه البنية النظرية، يعني أن على الممارسة السابقة أن تترك مساحة وتتجاور مع غيرها من الممارسات.

ولا ينسى أن ينبّهنا بأن النظرية قد لا تكون، أحياناً، أكثر من أيديولوجيا تبحث عن شرعنة ممارسةٍ ما. في كلّ الحالات، تظلّ في ضدّيتها تجاه الحسّ المشترك، ففي حين أنه يقوم على المضمرات، تُحاول هي تحويل كلّ شيء إلى ظاهِر (النوايا، المسلّمات...).

هذه الرؤية التي تعترف بالخصمين هي دَرْس أنطوان كومبانيون: هناك زوايا جديدة يمكن أن نرى من خلالها الحياةَ الأدبية، بعيداً عن التراتبيات والتقسيمات وإنهاك الإبداع بالسِّجالات حوله. يستعيد عبارة عالم الاجتماع بيير بورديو بأن الأدب/ مثل الفن، بات سجينَ "معضلات وهمية"، ومن هنا يقترح أن نرى النظرية باعتبارها تخييلاً (Fiction)، نتلقّاها كما نتلقّى حكاية نعلم أنها لم تقع ولكنّها قد تكون أصدق من كلّ ما وقع.

هكذا، وإلى جانب الإضاءة الشاملة التي يقدّمها "شيطان النظرية" لمشهد الفكر الأدبي، وإضافة إلى تطويره لمَلَكات نقد الأدوات المستعملة في دراسة الأدب، يمكنه أيضاً أن يغذّي الثقافة العربية بقيمةِ نحتاجها كثيراً؛ إنها الأريحية في تعامُلنا مع الأدب ومع مَن يشتبك به.

المساهمون