خمسة أيّام سورية في باريس: مهرجان يبني على الذاكرة وممكناتِها

29 اغسطس 2022
من دورة سابقة
+ الخط -

منذ زمن طويل وسؤالُ "ما العمل؟" لم يعد مقتصراً على الفعل السياسي المباشر. يمكن، مثلاً، لشباب وشابّات سوريّين وفرنسيّين أن يُناقشوه بينهم، في مساءٍ باريسي، بينما هُم يشهدون على تلاشي الاهتمام بقضيّتهم ــ قضيّة الشعب السوري ــ في بلدٍ مثل فرنسا. ويمكن لهم أن يفكّروا على النحو التالي: لو لم يقم أحدٌ منّا بفعل شيء، فقد يبقى الأمرُ على حاله، بل إنه قد يسوء، وقد تذهب القضيّة إلى النسيان.

من هنا، في الغالب، جاءت تسمية مهرجان Syrien n'est fait، التي تلعب، في اللغة الفرنسية، على التشابه صوتياً بين لفظ "سوري" وبين صياغةٍ للحديث عن عدم القيام بشيء ما.

خرج المهرجان إلى الضوء عام 2016، في دورةٍ أولى أعطت فكرةً عن طموح منظّميه ورغبتهم الجادّة في تحويله حدثاً ثقافياً سنوياً يسعى إلى اقتراح فنّ سوريّ، "ملتزم سياسياً"، إلى جمهور فرنسي (وعربي مقيم في البلد). ورغم قلّة موارده المادّية، وسنتَيْ الحجر الصحّي اللتين رافقتا جائحة كورونا، قطع المهرجان طريقه خلال السنوات الماضية، مستنداً بشكل أساسيّ إلى مجهود مجموعة من الشباب والشابّات، السوريين والفرنسيين، المشتغلين في عالَم الفنّ أو المهتمّين به، وبالقضية السورية، بالتأكيد.

يمكن لنا، كسوريّين، أن نبني سردية مضادّة لسردية النظام

اليوم، تعود التظاهرة في دورةٍ سابعة، تنطلق بعد غدٍ الأربعاء وتستمرّ حتى الرابع من أيلول/ سبتمبر المقبل، وتحمل في جعبتها مجموعةً من الفعاليات الثقافية التي تتوزّع على ثلاثة أماكن في العاصمة الفرنسية. دورةٌ تتّخذ من الذاكرة موضوعاً عامّاً لها، بعد أن كانت قضايا مثل العدالة والتوثيق والأرشيف والأرض والمخيال محاورَ لنسخ سابقة.

على أنّ استحضار الذاكرة، هنا، لا يعني لجوءاً إلى حنينٍ سهل لماضٍ بات بعيداً اليوم، أو تعامُلاً مع القضية السورية وكأنّها باتت أرشيفاً. إنه، على العكس من ذلك، استحضارٌ لإمكانيات هذه الذاكرة اليوم، أي لِما باستطاعتها تقديمه للسوريين في حاضرهم، كما يقول، في حديث إلى "العربي الجديد"، تمّام العمر، المدير الفنّي للمهرجان. "على مُلصق المهرجان، يمكن قراءة 'ذاكرة' بالمفرد والجمع. أردنا من ذلك التأكيد على أهمّية الذاكرة في بُعديها: الفرديّ، أي حكاية كلّ واحدٍ منّا كسوريين؛ والجمعيّ، الذي نلتقي فيه، على تمايزاتنا واختلافاتنا، لنشكّل سرديّة واحدة. هذه الذاكرة الجمعية، العامّة، هي نظرتُنا، ونظرة الفنانين والمثقّفين المشاركين في المهرجان، تجاه البلد. وهي، أيضاً، الأساس الذي يمكن لنا أن نبني عليه سرديّة خاصّة بنا كسوريين، مضادّة لتلك التي روّج وما يزال يروّج لها النظام".

هنا، يُعطي الفنان السوري، المقيم في باريس، مثالاً: سجن تدمر. "لم يعد هذا السجن موجوداً على أرض الواقع اليوم. هذا الأمر يناسب نظاماً ارتكب فيه أشدّ الفظائع ضدّ آلاف المعتقلين الأبرياء، ويريد إخفاء الدلائل على ما اقترفه. لكنّ السجن ما يزال موجوداً في ذاكرة السوريين: في ذاكرة مَن مرّوا به وعُذّبوا فيه، في ذاكرة أقاربهم، ومعارفهم، وفي ذاكرة مَن كانوا خائفين من الانتهاء فيه يوماً ما. بعض الفنانين السوريين الذين رسموا عن السجن، وبعض الكتّاب الذين استعادوا تجاربهم وتجارب غيرهم فيه، يساعدون في توثيق ما جرى فيه، وفي تشكيل مروية حوله مضادّة لمروية النظام. وهذا ما نريد فعله، أيضاً، من خلال المهرجان".

استحضار الذاكرة لا يعني لجوءاً إلى حنينٍ سهل للماضي

ضمن هذا المسعى يتنزّل العديد من الفعاليات التي برمجها المنظّمون هذا العام. مثلاً، عرضُ فيلم هالة محمد، "رحلة إلى الذاكرة" (السبت، 3 أيلول/ سبتمبر، في فضاء Les amarres)، والذي تُرافق فيه كاميرا المخرجة ثلاثة مثقّفين سوريين (غسان جباعي، ياسين الحاج صالح وفرج بيرقدار) يعودون، بالسيارة، إلى تدمر، التي قضوا سنوات طويلة (بين 10 و16 سنة) في سجنها، كمعتقلين سياسيين. كما يمثّل عرضُ الشريط تحيّة من المهرجان إلى الجباعي، الذي رحل عن عالمنا في وقتٍ أبكر من هذا الشهر.

كما يتمحور المعرض الجماعي الذي يقترحه المهرجان ("ذاكرة ذاتية" ــ طيلة أيام المهرجان الأربعة، في "غاليري نوشين باهليفان") حول هذا الذهاب والإياب، الذي أشاره إليه العمر، بين الذاكرة الجمعية والفردية. فنحن هنا أمام أعمال ــ لبيسان الشريف، وأحمد ناجي، وريم يسّوف، ومحمد عمران، ورندا مدّاح ــ يُعيد العامّ فيها صياغة الشخصي، أو يدعو (بعنفٍ ربّما) إلى إعادة قراءته وتذكّره، كما هو بادٍ، على وجه الخصوص، في اشتغالات بيسان الشريف وريم يسّوف.

محمّد عمران، الذي يشارك في هذا المعرض برسومات أغلبها جديد، يشارك أيضاً في ندوة بعنوان "الذاكرة بوصفها مصدراً للإبداع الفنّي"، إلى جانب نجاح البقاعي وعزّة أبو ربعية (الأحد، 4 أيلول/ سبتمبر، في Les Amarres). والثيمة نفسها، ثيمة التذكّر، هي التي ستشكّل موضوع الحديث في محاضرة أُخرى حول دور الأرشيف والمرويات في وجهة العنف السياسي؛ محاضرة تُشارك فيها سناء اليازجي، مؤسّسة موقع "ذاكرة إبداعية للثورة السورية"، والباحث والناشط وليد شرقاوي، وتُديرها الصحافية في صحيفة "لو موند" سيسيل إينيون.

سينمائياً، يقترح المهرجان عدداً من العروض ــ إلى جانب "رحلة إلى الذاكرة ــ مثل الوثائقي الطويل "أهلاً وسهلاً" لـ لوكا فيرنييه، الذي يعود، عام 2019، إلى شخصياتٍ كان قد صوّر حياتها في سورية بين 2009 و2011؛ والوثائقي الطويل، أيضاً، "سورية: نساء في الحرب"، لكمال رضواني، الذي يتابع حكاية أربع نساء منذ بداية الثورة.

إلى جانب عرضين راقصين تقدّمهما كلّ من نسرين هاغين وأمل النبواني، وورشات فنية (تعلُّم طباعة السيانوتايب) أو فولكلورية (تعلُّم الدبكة)، يقترح المهرجان سلسلة من الحفلات والسهرات الموسيقية، من بينها حفلان، واحدٌ لمغني الراب الجزائري دياز (فريد بهلول)، وآخر لعازف العود السوري مهنّد نصر.

المساهمون