في سياق رفضه احتمالات تطوُّر الذكاء الاصطناعي ليصبح بمثابة روحٍ بشرية، يقول الفيلسوف الأميركي جون سيرل، صاحب فكرة "الغرفة الصينية" المشهورة، بأنّ الذكاء الاصطناعي هو "مصطلحٌ إنشائيّ سيّئ تمّ ابتكاره عام 1956". ورغم أنّ المعلومة معروفة الآن لدى غالبيّة الناس، وهي أنّ الأنظمة الرقميّة والذكاء الاصطناعي صارت تلعب دورًا يتعاظم باستمرار في عالم اليوم، إلا أنَّ علاقة المستخدمين مع هذه التكنولوجيا لا تزالُ مُقتصرة في طور الاستهلاك.
المفارقة الأساسية، هي أنّ التطور التقني في مجال الرقْمَنة والذكاء الاصطناعي، هو أسرع بما لا يقاس من التنظير الثقافي والنقاش الفلسفي حوله. نحن أمام انفجارٍ تكنولوجي نحو الأعلى، مع معرفة يمكن وصفها بالسطحيّة والتخلّف لدى غالبيّة المستخدمين. التشابه بين المصطلحات بين عالم الرقْمَنة والعالم الحي يتكثّف في عبارة "الذكاء الاصطناعي". دومًا، لما يأتي الجديد، تنزعُ اللغة إلى ربطه بشبيهٍ مفهومي داخل اللغة نفسها. ضبط الجديد من خلال إدراجه في شبيهٍ مفهومي، هو لإكسابه معنىً وبدء النقاش حول فوائده وأضراره. التشابه المفهومي يسهّل التعامل مع الجديد ويطلق بدء عملية الفهم حوله.
السلبية المطلقة
ولكن عند التمعّن في مصطلحات مشتركة بين عالم الرقمنة والعالم الحي مثل "سحابة" و"ذكاء اصطناعي" و"هاتف ذكي" نجدُ توتّرًا بين طرفي العبارة وداخل الكلمة نفسها. من وجهة نظر فلسفة الذهن، عبارة "سيارة ذاتية القيادة" يجب أن تُستبْدَل بعبارة "سيارة آلية القيادة". التفريق مهمّ لتحديد المسؤوليّة ومحاسبة المخطئ عند حصول حادثٍ سير. مَن ارتكب الخطأ، الذكاء الحي أم الذكاء الاصطناعي؟ يرفضُ تيّار فلسفة الذهن افتراض قدرة الذكاء الاصطناعي بالتحوُّل إلى ذاتية روحية ووعي فريد ووجود استثنائي.
تخفّف الخوارزمية العبء على الضمير بنقل المسؤولية للآلة
الرفض مبنيُّ على فكرة هيغل المعروفة بـ"السلبية المطلقة". السلبية المطلقة هي الطريقة الوحيدة لتحديد الجوهر الروحي المميِّز للإنسان، الجوهر الذي يعطيه الاستثناء الدائم والفرادة الوجودية. السلبية المطلقة هي القدرة على النفي المستمر، إذْ بإمكان المرء أن يفصل بينه وبين أي شيء يقع خارج ذاته العميقة، ويقول بأنّه: ليس طاولته، وليس القلم الذي يكتب به، وليس ألمه الجسدي، وليس يده أو قدمه حتّى. دومًا، الذاتيّة الروحية قادرة على تحديد نفسها، ليس بالإشارة المباشرة (أي بشكل إيجابي) وإنما من خلال نفي الخارج عنها (أي بشكل سلبي). لا يمكن أن تتشكل الذاتية بدون القدرة على ممارسة السلبية المطلقة، وأنظمة الذكاء الاصطناعي بعيدة كل البعد حتّى الآن عن القدرة في تشكيل "أنا" مغلقة لا يمكن الولوج إليها وقادرة على النفي المطلق.
مفهوم القرار
من التقاطعات الأخرى بين العالمين، الرقميّ والحيّ، عبارة "قرارات الخوارزميّة". الخوارزميّة تقرّر عادة أي الإعلانات يجب أن تظهر عند تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي، وأيّ الموظّفين يستحقّ الترقية في الشركة، ومَن يحقّ له الحصول على قرضٍ بنكي، بل حتّى صارت الخوارزميات تقرّر أي المساجين يستحقّ إطلاق سراح مشروطاً في بعض السجون الأميركيّة. حتّى في غرف العناية المركّزة وطبّ الطوارئ "تقرّر" الخوارزميّة أيّ المرضى يستحقّ أولويّة العلاج، وأيّهم لا يقترب من ظروف العجالة.
في عالم اليوم، الخوارزمية تفرز البشر باستمرار بحسب معايير معطاة سلفًا. ولكن لا يمكن الاستهانة بإيجابيات الخوارزميّة. الكومبيوتر يعمل على قاعدة من الأسس الثابتة، وتأثير المشاعر الفرديّة والمصالح الشخصيّة وكلّ "مُلوِّثات الأنْسَنة" هو صفر بالمطلق، ليأتي القرار متّسمًا بالحياديّة الموضوعيّة الصارمة. بالإضافة إلى ذلك، "تريّح" الخوارزمية الأطباء ومدراء الشركات من اتخاذ قرارات صعبة، وتقلّل التفاعل الوجداني في مواجهة الحالات الخطرة. الخوارزمية تحوّل حس المسؤولية البشريّ إلى عمليّة حسابيّة مُرقْمَنة. السؤال هو: هل تقرّر الخوارزمية فعلًا؟
النظرة الكلاسيكيّة لمفهوم القرار هو أنّنا، لحظة القرار، نكون أمام احتمالين على الأقلّ. بعض القرارات تُتّخذ بسهولة وسرعة لأننا نستحوذ على دليلٍ للأفعالٍ داخلنا، تشكّل من خلال العادة والتكرار، وانغرَسَ في سياقنا الثقافي، أو ما يسمّى اختصارًا بـ "التفكير السريع"، كتجنُّب الاقتراب من النار. في المقابل، في "التفكير البطيء" نكون في أوضاعٍ أعقد قليلاً، كأن نسأل أنفسنا: هل يجب أن آخذ الباص القادم، أم أبقى مع أصدقائي، وأنتظر الباص الذي يليه؟ أو هل أدهن غرفتي بالأبيض أو الأحمر أو البني؟ في التصوّر الكلاسيكي الميكانيكي للقرار، توضع جميع الخيارات على ميزانٍ يعتمد مقياساً معنياً، وتناقش اعتمادًا على هذا المعيار. الفهم الميكانيكي الشائع للقرار ربّما هو ما قاد إلى عبارة "قرارات الخوارزمية".
سُلطة الرقم
والحال، فإنّ الخوارزمية ببساطة تحتوي على بنية لغويّة برمجيّة فيها وصفٌ مسبق للعلاقات يحوِّل المدخلات إلى مخرجات. التعلم الآلي للذكاء الاصطناعي ذهب إلى خطوة أبعد. البنية اللغوية البرمجية ليست مغلقة على نفسها، بل هي مفتوحة أمام التحسينات الخارجيّة، وثمّة إمكانيّة خلق علاقات جديدة وتحطيم علاقات قديمة. داخل الخوارزمية نفسها، توجد حالات نموذجية وأمثلة رئيسية (أو ما تسمّى بـ "جمل التدريب" في عالم الرَقْمنة) تشرف على معالجة المدخلات وتحويلها لمخرجات اعتمادًا على النماذج المثالية. في إحدى الشركات الألمانية، كشفت خوارزميّة غريبة عن هيمنة الرجال البيض الألمان، وتحديدًا حَمَلَة اسم "شتيفان"، على المناصب القيادية العليا في الشركة. بل حتّى أن هذه الخوارزمية قادرة على تحديد أنماط مشابهة تحقّق شروطها، أي الرجال البيض الألمان حملة اسم "شتيفان"، وذلك عند البحث في السير الذاتية للمتقدِّمين إلى الشركة مستقبلًا.
لا شكّ أن الخوارزميات متطوّرة، والمستخدمون العاديون لا يعرفون عادةً كيف تعمل الخوارزميّة بالضبط، لأنّ محاولات التعلّم الآلي لتحسين المخرجات هي رهيبة ومعقّدة بشكل لا يوصف. عادة، ينظر صانع القرار إلى المخرجات، ثمَّ تُقيَّم بشكل معياري بوضعها أمام ذات بشريّة، أي أمام الحدس المباشر وتاريخ التجربة. الأنماط الفائقة المتطورة من الذكاء الاصطناعي تكشف عن أنماط جديدة أحيانًا، لأنها تعتمد على معايير إحصائيّة بحتة. الأنماط الجديدة المكتشفة تكشف عن روابط ثورية وجديدة تارةً، وعن ارتباطات زائفة لا معنى لها تارةٍ أخرى. ولكن دومًا: البشر يسمّون النمط الجديد، ويقرّرون الثوريّ من الزائف!
فقط خارج الشيفرة وعالم المكننة يكون الإنسان إنساناً
الخوارزمية تحمي البشر أيضًا من العقبات النفسية والتماس السام، وتخفّف العبء على الضمير عبر نقل المسؤولية للآلة. تفويض الآلة يخلق استقرارًا، لأنّ السلطة المبنيّة على المعايير الحسابيّة المِترية والحسابات الرياضيّة الصحيحة هي سلطة تبدو معرفية لحياديتها ودقّتها. ولا يشكّك المرء بقراراتها، إمّا بدافع الروتين أو عدم اليقين أو الشعور بالضآلة أمام الرقمنة الفائقة. الخوارزمية ملجأ قانوني أيضًا لدى صانعي القرار في حال حدوث ضرر. ولكن الحساب الرياضي مختلف عن القرار البشري. الحسابات الرياضية تخلق الأمان والنظام والديمومة، ولكن القرار الأخلاقي يقع تماماً "خارج الشيفرة".
فائض الخيال
في السنتين الأخيرتين، نُشِرَت في أميركا أبحاث جديّة عن قرارات الخوارزميات والتحيّز الاجتماعي. الأمثلة الرئيسية والحالات النموذجية داخل الخوارزمية هي بيانات في النهاية. والبيانات هي متغيّرات "مطبوخة" ومتأثرة بعوامل متداخلة كالسياق الثقافي والعمليّة السياسيّة في لحظة ما من التاريخ. من جهة أخرى، الخوارزميّة تمتلك تصوُّرًا اختزاليًا رياضيًا للعالم، يخلقُ بدوره نوعًا من الانضباط الاجتماعي والنظام العام. نزعة المُحَافَظة، متأصلة بشكل جوهري في الخوارزمية، لأنّها دائمًا تعمل على إعادة إنتاج أنماطٍ معيّنة من الأنظمة. كثرة فضائح التحيّز الاجتماعي في أنظمة الخوارزميات فعّل النقاش مجددًا حول ضرورية نقد الفهم الميكانيكي السائد لمفهوم القرار، والتفريق بين قرار الخوارزمية والقرار البشري.
ضدّ هذا الفهم الميكانيكي الشائع، ينظر الفيلسوف الأميركي، ت. م. سكانلون، إلى القرار ليس بوصفه وزنًا مجرّدًا للخيارات المتاحة، أو عمليات حسابية رياضية. في القرار نتصوَّر النتائج ونفكّر بالمبرّرات، والخيال جزءٌ بنيوي من عملية صنع القرار. نتخيّل المستقبل ونضع سيناريوهات باستخدام كلماتٍ مثل "ماذا لو" و"كأنّ". الحياة ليست قطعت شطرنج مسبوكة بسلسلة من العمليات المنطقية الممكنة فقط، بل إنّ مستقبلنا أحيانًا معقد ومشوش ويعتمد على عوامل متعددة لا يمكن التأثير فيها.
ولكنّ المستقبل قابل للتصوُّر ويمكن تخيّله. "فائض الخيال" هو فارق جذري بين القرار البشري وقرار الخوارزمية. من جهة أخرى، تحدث القرارات البشرية، أحيانًا، اعتمادًا على نتائجها اللاحقة (مخرجاتها) وليس اعتمادًا على النوايا المبدئية لمتّخذيها (مدخلات). من الممكن اتخاذ قرار مخالف للتوقعات وخارج الأنماط السائدة، وسيُوصَف ربّما بالمرضي أو المجنون أو المبدع أو العبقري أو التافه. بعبارة أخرى، في القرارات البشريّة، لا توجد أولوية للمدخلات على المخرجات، في حين في الخوارزمية، المدخلات لها أولوية دومًا وهي تحدّد شكل المخرجات.
الفن
في كتابه "لغة الفن"، يردّ الفيلسوف الأميركي نيلسون غودمان بالإشارة إلى الفن. الذات البشريّة من خلال الفن قادرة على تجاوز التشابه. من خلال الفن، يستطيع الفنان خلق عملٍ يحمل موقفًا فنيًا، ولا يعتمد على التشابه في صياغة هذا الموقف. بوضوح أكثر، بعد انتهاء المدرسة الواقعية في الفن في أوروبا وأميركا، لم تعد أي درجة من التشابه مطلوبةً بين: العنصر في العمل الفني والعنصر في العالم المادي. ولم يعد من الضروري أن يكون الفنان مهمومًا بإخلاص نقل الواقع بالريشة والألوان. الحرية مطلقة، وأي عنصر يمكن أنْ يمثّل ويدلّ على أي عنصر، والفنان وحده يوضّح العلاقات الجديدة بين العناصر بإيضاح لغته الخاصة في سياق العمل. لوحات مارك روثكو تقول الكثير ولا تشير إلى شيء في العالم المادي، وإيغون شيلي ينقل الإحساس بعزلة الإنسان بدون هاجس رسمه بدقّة واقعية. من جهة أخرى، فإنّ "التشابه"، كما يقول غودمان، هو "النشاط العقلاني" الوحيد داخل الخوارزميّة، وبغياب التشابه، تنتفي الخوارزمية نفسها.
الحاجة ملحّة لرسم الحدود باستمرارٍ بين العالم الحيّ وعالم الرقمنة. الإنسان ليس وعاءً من عمليات رياضيّة متناسقة، بل إنّ ذاته حساسة تتأثّر بدرجة احمرار الأشجار في الخريف، وتحوّل قطعًا مهملةً إلى تذكارات روحيّة، وتحرّم أكل حيواناتٍ معينة في الدين. وفقط "خارج الشيفرة"، يكون الإنسان إنسانًا.
* كاتب من سورية