يناقش الباحث القطري حنيف محمد العذبة في كتابه "عندما يصبح تنظيم التعليم في قطر شأن الدولة" الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تطور المشهد التعليمي في قطر منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ويبيّن خصوصية هذه التجربة التعليمية التي رغم استئناسها بتجارب الدول المجاورة من خلال اعتماد كتبها ومقرراتها، فإنّها لم تكن مجرد استيراد لتجربة بعينها، بل كانت تعدل برامجها وتغيرها بما تقتضيه احتياجاتها.
ويبرر المؤلف خوضه في موضوع مطروق بكون تاريخ التعليم في قطر لا يزال في حاجة إلى إعادة كتابة، عبر مناهج ومقاربات جديدة، ولا سيما أن الدراسات التي اهتمت بتاريخ التعليم فيها مثقلة بالعديد من المغالطات التاريخية التي جرى تناقلها من دون التفكير فيها والتمحيص في مدى تطابقها مع الوقائع التاريخية.
يستعرض الفصل الأول "التعليم في قطر: مبادرات فردية حرة"، النماذج الأولى المتعلقة باكتساب القطريين المعارف من خلال العودة إلى مصادر تاريخية متعددة يُعمل فيها المؤلف أدوات المنهج التأريخي، ولا سيما من حيث الفحص والتمحيص، ومقابلة بعض المصادر ببعضها الآخر، ومقارنة التجارب في دول الجوار، والتعقيب على التصنيفات و"التحقيب" الذي اتفقت أغلب المراجع على تقسيم المراحل التي مر بها التعليم في قطر ضمنه.
يعود الكتاب إلى لأماكن التعليمية الأولى في قطر خلال القرن الثامن عشر
يواجه المؤلف الفكرة السائدة لدى العديد من المصادر، والتي مفادها أنّ اهتمام المجتمع القطري بالتعليم لم يبرز إلّا في أواخر القرن التاسع عشر (1890)، في شكل أول نظام تعليمي سُمِّي بـ "نظام الكتاتيب". ويبدو أنّ هذه الفكرة أصبحت معطًى تاريخيًّا ثابتًا تداولته الدراسات من دون تمحيصٍ. وهي تؤكد أنّ قطر لم تعرف استقرار السكان إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وأنّ ظهور الكتاتيب تزامن مع بداية هذه الفترة.
يوجّه المؤلف نقدًا لهذه الفكرة من خلال نموذج مدينة "الزبارة" التي تأسست في القرن الثامن عشر الميلادي، وشهدت استقرارًا سكانيًّا، وتدفقًا للعلماء والأدباء عليها، ومن بينهم الشيخ محمد بن حسين بن رزق (1725-1809) الذي قدِمها من البصرة، وقد كان من كبار التجار والعلماء. وتفيد بعض المصادر بأنه اهتم بتشييد المساجد والمدارس.
ويقدّم الكتاب عرضًا لملامح الأماكن التعليمية الأولى التي حملت تسمية "المدرسة" في قطر، وأولها "المدرسة الرشدية" في قطر التي أنشئت، في عام 1890، إبّان الحضور العثماني. وهي مدرسة متوسطة "نظامية"، وكانت تُدرَّس فيها العلوم الإسلامية واللغة العربية والحساب، متبعةً في ذلك طريقة التدريس في المدارس العثمانية، وكانت مؤلفة من ثلاثة صفوف ابتدائية وثلاثة أخرى متوسطة. وجاءت بعدها "المدرسة الأثرية" في عهد الحماية البريطانية التي أُنشئت عام 1913 في غرفة في قصر الحاكم الثالث لقطر الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني (1880-1957).
يخصص العذبة الفصل الثاني "مأسسة التعليم في قطر"، لعرض المراحل التي مرت بها عملية الانتقال من المبادرات الفردية في التعليم إلى استلام الدولة زمام الأمور وتحوّل التعليم إلى أحد شؤون الدولة، متناولاً التصنيفات والتسميات التي درجت دراسات تطور التعليم في قطر على استخدامها (من قبيل "نظام الكتاتيب"، و"التعليم شبه النظامي"، و"التعليم النظامي")، ويشير إلى أنّ هذه التصنيفات والتسميات القائمة عليه يكتنفها الكثير من الإبهام واللبس؛ نظرًا إلى تداخل مفاهيمها وتزامنها وتعايشها في فترات زمنية متعددة.
يُعدّ ظهور مدرسة قطر الابتدائية خطوةً أولى تعلن بداية تعهّد الدولة بالتعليم وتنظيمه وإدارته وتسييره. فقد خصص الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، عام 1950، قطعة أرض في الدوحة لتشييد أوّل مبنى مدرسي في قطر. وظهرت تسمية "المدرسة الرسمية" أول مرة مع افتتاح هذه المدرسة في 9 كانون الثاني/ يناير 1951. وانطلاقًا من هذا التاريخ، جرى اتخاذ جملة من الإجراءات لعل أوّلها كان إصدار قانون عامّ ينظّم التعليم في قطر عُرف بـ "قانون المعارف"، وقد أُنشئت بموجبه لجنة المعارف التي يعيّنها الحاكم لتتولى بالنيابة عنه الإشراف على سياسة التعليم في البلاد.
لقد أُنشئت أول وزارة للتعليم في قطر سنة 1957 تحت مسمى "وزارة المعارف"، بحسب الكتاب، وجرى وضع "خطة وزير المعارف" التي أمرت بوضع مناهج دراسية ثابتة يسير عليها التعليم، وعقد أول امتحان رسمي للشهادة الابتدائية العامة. وأخذ التعليم شكلًا أكثر تنظيمًا في مراحله، وأوسع في برامجه، ليشمل العلوم الحديثة واللغة الإنكليزية. وساعد تدفُّق مداخيل النفط، مع بداية تصديره عام 1949، في تكفُّل ميزانية الدولة بتمويل التعليم، بما في ذلك مَنْح الطلاب مساعدة نقدية تبدأ من الصف الرابع لتشجيعهم على طلب العلم؛ حتى لا يضطروا إلى الانقطاع عن التعليم من أجل العمل. ومع ذلك، استمرت مساهمة كبار التجار في ضخِّ المبالغ المالية اللازمة لإنشاء المدارس وانتداب المعلمين.