استمع إلى الملخص
- نشرت بحثها في الفضاء العام بالتعاون مع لورا فون ألبيرت، وحولته إلى كتاب بتصميم إبداعي، وعرض في "جامعة برلين للفنون".
- واجهت تحديات أكاديمية في ألمانيا، خاصة بعد أحداث أكتوبر، وأصرت على تسمية الأشياء بمسمياتها، مؤكدةً القيود على حرية البحث وارتباطها العاطفي بالقضية الفلسطينية.
في رسالة التخرّج التي تحمل عنوان "صراع على الماء، صراع على الأرض"، تبحث الجامعية الألمانية ميرين شفارتس كيف يستخدم الاحتلال الإسرائيلي مصادر المياه في الضفة الغربية المحتلة سلاحاً لطرد الفلسطينيّين وحملهم على ترك أراضيهم، إما بهجرة داخلية من مدينة أو قرية إلى أخرى، أو عبر ترك البلاد بالكامل، كما تبحث كيف أنَّ الاحتلال هو المسيطر الحقيقي على مصادر المياه كلّها في الضفة الغربية، وكيف يسخّرها لبناء وتوسيع مستوطناته وقضم أكبر عدد ممكن من الأراضي الفلسطينية.
منذ أواسط العام الماضي، بدأت شفارتس (26 عاماً)، البحث في المصادر والإحصائيات المختلفة في إطار إعدادها لرسالة تخرُّجها من قسم العلوم الاجتماعية بـ"جامعة فولدا"، وسط ألمانيا، والتي أنهتها في شهر مارس/ آذار من العام الجاري، ولكن مع ازدياد الأوضاع حرجاً في فلسطين، وإعلان مسؤولي كيان الاحتلال نواياهم بالاستيلاء الكامل على الضفة الغربية، وإحداث نكبة ثانية في عموم أرض فلسطين، رأت ميرين أهمية أن تطرح بحثها للفضاء العام، خصوصاً في بلد يدعم بشكل كليّ هذه التوجُّهات الاستعمارية، ويمدُّها بالدعم السياسي والاقتصادي وحتى اللوجستي، إذ هناك تقارير تفيد بأنّ شركات ألمانية عديدة كثَّفت استثماراتها في المستوطنات.
تعاونت ميرين أخيراً مع صديقتها لورا فون ألبيرت (24 عاماً)، وهي مصمّمة غرافيك من أصول عراقية وألمانية تكمل دراستها العليا في "جامعة برلين للفنون"، على تحويل رسالة التخرّج إلى كتابٍ بتصميم إبداعي يعتمد على أدوات بصرية تَجعلها أقرب للقارئ، خصوصاً عند الحديث عن قضية أخلاقية وقانونية وسياسية صعبة وثقيلة كالقضية الفلسطينية، وقد تم عرض الكتاب ومناقشته مع مجموعة من أعمال مختلفة لطلاب "جامعة برلين للفنون"، في إحدى الأمسيات التي تنظِّمها الجامعة.
لاحظت بعد 7 أكتوبر تغيّراً في التعامل مع موضوع بحثها
يتميَّز تصميم الكتاب بتنوّع شكل وحجم الخط في تشكيل الصفحات، فقد جاءت بلونين هما الرمادي والأبيض، تتناوب بينهما بعض الفقرات المرصوفة بشكل مُتلاصق عند سرد تفاصيل وحكايات مختلفة. ثم تأتي صفحة قد تحتوي على سطرين أو ثلاثة عند طرح فرضية معيَّنة أو اقتباس مميز يُكتب بخط عريض، قبل العودة إلى النمط ذاته أثناء التدليل وطرح الأمثلة.
داخل الفقرة الواحدة أحياناً تُكتب بعض الجمل بخط صغير وأحياناً أخرى بخط أبرز، بهدف إحداث انسيابية أكبر عند قراءة هذه التفاصيل دون أن يفقد القارئ تركيزه، بالإضافة إلى إبراز العديد من الاقتباسات المهمة أو النقاط الحساسة بين الصفحات أو الفقرات المختلفة.
توقفت "العربي الجديد" مع شفارتس للحديث عن كتابها وسؤالها عن حضور القضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية. تقول: "إن القضية الفلسطينية كانت حاضرة دائماً في الأوساط الأكاديمية في قسم علم الاجتماع. في الحقيقة ساعدني أحد الأستاذة لزيارة فلسطين في برنامج مشترك مع جامعة بيرزيت. كان ذلك في شهر تموز/ يوليو من العام الماضي، وقد شهدتُ الاقتحام الكبير لمخيم جنين، قبل أن أقرّر العودة إلى ألمانيا وتكثيف عملي على البحث الذي قدمته في آذار/ مارس من العام الجاري".
وتتابع ميرين متحدثة لـ"العربي الجديد"، أنّ الأساتذة كانوا في البداية متعاونين ومنفتحين على البحث، لكن مع أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لاحظت تغيّراً كبيراً في التعامل مع الموضوع، خصوصاً عند الأستاذ المراقب الأول، الذي، على حدّ تعبيرها، أصبح "شديد الحذر ويحاول تجنّب أي صراع محتمل". تتحدث ميرين كيف نصحها أثناء تحضير البحث بأن تنتبه كثيراً للّغة التي تستعملها في البحث، وأن تتجنب مثلاً تسمية "إسرائيل" بنظام الفصل العنصري، وأن تستخدم بدلاً من ذلك تعبيرات مثل "قد يرى البعض إسرائيل نظام فصل عنصري" أو أن تستخدم تعبيرات مثل "نظريّاً يُمكن أن تعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري".
رفضت ميرين هذا الأمر وأصرَّت على تسمية الأشياء بمسمياتها، خصوصاً أنها لا تتحدث عن فرضيات، بل عن واقع بات مكشوفاً تُثبته المنظمات الدولية. هذا الأمر دفع المراقب أثناء إدارته جلسة مناقشة بحث التخرّج إلى تجاهل كلّ ما يتعلّق بفلسطين، فقد ركَّز أسئلته على موضوعات عامّة كالمشكلات البيئية واللجوء بسبب الكوارث، ولم يطرح سؤالاً واحداً يتعلّق بتعريفات الاستعمار الإحلالي أو استخدام الماء سلاحاً للاضطهاد، وهو موضوع البحث الرئيسي.
تنفي ميرين أن يكون البروفسور قد حاول مضايقتها أثناء كتابة البحث أو مناقشته، لكنها تلفت النظر إلى رغبة واضحة في تجنّب الحديث المباشر عن أي شيء يتعلّق بفلسطين، لكنه لم يُمانع أن يقبل البحث كما هو ويعطي علامة مناسبة. وقد ساعد ميرين في الإصرار على قرارها أنّ المراقِبة الثانية هي من أصول فلسطينية، وقد كتبت بدورها كثيراً عن الموضوع.
تحرم المؤسسات التعليمية الألمانية الطلّاب من البحث بحرية
أما بالنسبة للجامعة، فقد خافت ميرين أن يتم رفض موضوعها من قبل الإدارة، خصوصاً في ظلّ إلغاء الكثير من الصفوف والمحاضرات أو تغيير عناوينها بعد السابع من أكتوبر، لكن البحث في نهاية المطاف قُبل، وذلك حين قررت ميرين أن تلجأ لحيلة جعل عنوان البحث عامّاً، وألّا تورد اسم فلسطين في العنوان. تقول لـ"العربي الجديد"، مدركةً أنها لا تزال في بداية مشوارها: "أعي جيداً أنني في بداية الطريق، ولكنني أعي أيضاً ضرورة أن يبادر الإنسان بما يمتلكه في كل مرحلة كي يساهم في تحرير العالم من الاستعمار، وتحرير الناس من البنى الاستعمارية".
وتتناول شفارتس في حديثها الهيكليات المعقّدة في بعض المؤسسات التعليمية الألمانية التي تحرم الطلّاب من البحث بحُرية أكبر واستخدام اللغة المناسبة واختيار المصطلحات الأدق لتوصيف الأمور، لا سيّما حين يتدخّل الأساتذة ويفرضون رؤيتهم ويلزمون الطلاب بعدم طرح رؤاهم الخاصة، لكنّها تقول إنها تحرَّرت من هذه القيود، وتشير إلى أنها استخدمت في بحثها ضمير المتكلم، خصوصاً في أثناء طرحها الفرضيات والتدليل عليها؛ وهي صيغة غير دارجة في الجامعات الألمانية.
وتتابع ميرين حديثها لـ"العربي الجديد"، مؤكدةً ارتباطها العاطفي مع الموضوع الذي تطرحه، حيث كتبت في خاتمة كتابها "الحوار الجيّد يُمكن أيضاً أن يكون عاطفياً"، وبهذا التعبير أرادت أن تُخالف، عن وعي، الوضع السائد في الأكاديميات والأوساط المثقّفة في ألمانيا، التي تُصرُّ دائماً على تنحية العاطفة تماماً من أي بحث فكري أو أكاديمي، وتعتبر العاطفة والانفعال العاطفي عيباً وقصوراً للباحث، بحجة أنّها تُذهب الموضوعية والاستقراء المتزن، لكنّ ميرين شفارتس تختار أن تسلك طريقاً آخر، فهي الباحثة التي ارتبطت بذلك المكان وزارته وعاشت بين أهله، والقضية الفلسطينية بالنسبة لها هي قضية إنسانية مليئة بعواطف كثيرة، عواطف الغضب تجاه الظلم، والحزن لأجل المنكوبين.