وجّهت وزارة الثقافة في الجزائر تعليمةً للعاملين تحت وصايتها بمنع برمجة وبثّ ما سمّته "الأغاني المبتذَلة" في الفعاليات الثقافية. وقالت الوزارة في نصّ التعليمة، التي نشرتها أمس، إنّ هذا الإجراء يأتي بعد "استفحال ظاهرة انتشار التجاوزات الأخلاقية في كلمات بعض الأغاني الجزائرية (...) المضلّلة لمختلف فئات المجتمع، ولا سيما الشباب والناشئة، من خلال نشر الابتذال والانحراف، وتشجيع العنف والجريمة، والتحريض على تعاطي المخدّرات، والتشجيع على الهجرة غير الشرعية".
وذكرت الوزارة أنّها "لن تتهاون في سبيل ترسيخ هذا الإجراء، وذلك باستعمال كلّ ما يخوّله القانون في هذا الشأن".
للوهلة الأُولى، تبدو التعليمة أمراً عاديّاً، بما أنّها تتعلّق بالأنشطة التي تندرج تحت وصايتها. مِن حقّ الوزارة، نظرياً، أنْ تَفرض شروطها على مُتعامليها، والذين يعرضون إنتاجاتهم بمقابِل مادّي. يُتيح ذلك، إلى حدّ كبير، ضمان ذهاب أموال الدولةِ إلى نمطٍ مُحدَّد من الإنتاج الثقافي والفنّي، يتماهى مع ما يمكن أن نسمّيه "الثقافة الرسمية".
هذه المسطَرة لن تجد، على الأرجح، مقاوَمةً تُذكَر. إنّها موجَّهةٌ في الأساس إلى نوع معيَّن مِن الفنّانين، طوَّر، بفعل التجربة، مهارات للتأقلُم مع متطلّبات المؤسَّسة الرسمية، وإنتاج أعمال على مقاسها؛ أعمالٍ رديئة في الغالب. يقف هؤلاء على أُهبة الاستعداد دائماً، ليتصدّروا الصفوف الأُولى في المناسبات الوطنية والمواسم الانتخابية، وخلال "الظروف والتحدّيات الاستثنائية" و"المنعطفات التاريخية" - وما أكثرَها في خطاب السُّلطة. دافعُهم "حُبّ الوطن" وتلبيةُ "ندائه"، وإن كان لهذا الحُبّ ثمنُه: الحصول على حصّة عاجلةٍ مِن الريع، وضمان الحصص المؤجَّلة بالبقاء في دائرة متعاملي السُّلطة.
ليست الأغاني حتماً ما يُشجّع الجزائريّين على الهجرة السرّية
أمّا النوعُ الآخر، فهو يُنتِج فنّه، غالباً، بمعزَلٍ عن السُّلطة. إنّه يُقدِّم أعماله للمتلقّي مباشرةً، ويأخذ منه مُقابِل ذلك مِن دون الحاجة إلى وسيط رسمي. لا حاجة له إلى وزارة الثقافة ومهرجاناتها وفعالياتها، وهذا ما يجعله متخفِّفاً مِن أيّ التزام "وطني" أو "أخلاقي"، وقادراً على الخوض في السياسة والجنس والعنف والجريمة والمخدّرات والهجرة السرّية... وفي غيرها من المواضيع التي تصفُها تعليمة وزارة الثقافة بـ"الظواهر السلبية والمُشينة". تهدف التعليمةُ إلى منع هذا النوع من الفنّانين من فعاليات وزارة الثقافة. لكن، فات مَن كتبها أنّ هؤلاء، غالباً، غائبون عن "الفعاليات الثقافية" الرسمية مِن الأساس.
يُمكن أن نُسجِّل أكثر من ملاحَظة أُخرى على التعليمة؛ من بينها أنّ وزارة الثقافة ربّما تتصوَّر، بشكل فادح السذاجة، أنّ مرور "الذائقة الفنّية" لا يزال، في زمن الإنترنت وشبكات التواصل والذكاء الاصطناعي وفي زمن انحدار الآداب والفنون، يمرّ عبر القنوات الرسمية، أو على الأقلّ عبر القنوات الرسمية وحدَها. ليس ثمّةَ داع للتذكير بعدم جدوى فرض وصاية على الذائقات الشخصية، وبأنّ أية مُحاوَلة لذلك إنّما تندرج ضمن ممارسات الأنظمة الشمولية، لكن، قد يكون مفيداً القول إنّ مُحاربة "الأغاني المبتذلة" ليست هي ما سيُقدِّم "دفعاً لشباب الجزائر نحو المواطنة الراشدة بما يخدم البلاد ويُسهم في تنميتها وازدهارها"، مثلما يرد في التعليمة.
تتضمّن العبارةُ السابقة مزايدةً مكشوفة، وتُشبهها في ذلك الإشارة إلى أنّ التعليمة تنطلق مِن "البند الرابع من الالتزامات الـ54 لرئيس الجمهورية السيّد عبد المجيد تبّون، والذي ينصّ على أخلقة السياسة والحياة العامّة". سُبل أخلقة السياسة والحياة العامّة كثيرةٌ لكنّ السُّلطة لا تراها. ولعلّ مِن الطريف أنّ محاربة "الأغاني المبتذَلة" قد لا تكون من بين تلك السُبل أساساً، خصوصاً حين يُجعل من الفنّ المبتذَل شجرةً يُراد منها أن تُخفي غابةً بأكملها. بمعنىً آخر، حين تُحمَّل "الأغاني المبتذَلة" مسؤولية إخفاقات السُّلطة، فتُصبح سبباً في انتشار "العنف والجريمة في الشارع والعائلة والمدرسة، وتعاطي المخدّرات، والهجرة غير الشرعية". نعلم، على الأقل، أنّ ما يُشجّع الجزائريّين على الهجرة السرّية ليسَت الأغاني إطلاقاً، مبتذلة كانت أو رفيعة.
* كاتب من الجزائر