"يا حبيبي خذني معك في هذا السفر، سأكون زوجتك؛
لكن عندي زوجة.
خذني إذاً أُختاً لك؛
كذلك عندي أخت.
خذني إذاً غريبةً ترافقك؛
لا أحد يحتاج إلى المرأة الغريبة".
حامت هذه الأغنية الروسية في رأسي خلال رحلة القطار المُسافر بي من برلين إلى لايبزيغ. حيثُ كنت في رحلة عملٍ لمُهمةٍ محدّدة: إلقاء محاضرتي الأولى أمام نساء أوكرانيات حول أمراض الثدي والكشف المبكّر عن سرطانه. ولأنني قدّمتُها أكثر من مرّة لنسائنا العربيات، لم يكن موضوعها شاغلي. ما شغلني كانت بانوراما الظروف المُعقّدة حولها؛ اشتباكُ خيوط لأكثر من قضيةٍ إنسانية معاً.
كانت اللّاجئات الأوكرانيات قد طالبن بسلسلة محاضراتٍ حول صحّة المرأة، بلغتهنّ الأم، إذ لم يتعلّمن الألمانية جيّداً بعد. ولم تعثر المنظمة الراعية لهُنّ على طبيبةٍ نسائيةٍ من بلدهنّ، فأوكلت المهمّة إليّ، أنا الطبيبة السورية التي تحمل شهادة خبرةٍ في التوعية الصحية، وتتكلّم الروسية.
سألتُ مشرفة الجمعية عن مستواهن التعليميّ، فأجابتني بثقةٍ خشيتُ معها من أن تكون معلومات التوعية العامة للنساء من بديهياتهنّ: "لسنَ كباقي اللاجئات من آسيا وأفريقيا، كلّهن جامعيّاتٌ أو أعلى. أوكرانيا دولة أوربية، متحضّرة".
صقلت أوكرانيا تربيتي وارتقت عندي إلى مقام بلدي الثاني
حاورتُ نفسي؛ حين يأتي الحديث عن المرض، هل تختلف طبائع النساء من بلد إلى بلد، أو من قارّة إلى أُخرى؟ وهل تختلف آثام النزوح على الإنسان أيّاً كان، وعلى النساء خصوصاً، باختلاف البلد الذي اقتُلع أبناؤه منه؟
لجأتْ هؤلاء النساء إلى ألمانيا إثر الحرب الروسية الأوكرانية. ونساء أوكرانيا لسن غريباتٍ عليّ، إذ عشتُ بينهنّ، في بلدهنّ، سبع سنواتٍ؛ لم أتعلّم فيه وحسب، بل صقل هذا البلد تربيتي وارتقى في وجداني إلى مقام بلدي الثاني. بدأتُ دراسة الطبّ في أوكرانيا عندما كانت واحدةً من جمهوريات الاتحاد السوفييتي القديم، الناطق بمجموعه باللغة الروسيّة، وهناك حفظتُ تلك الأغنية أعلاه: "خذني معك".
أغنيةٌ تعبّر حقّاً عن نساء ذلك البلد، فاتنات وفاديات، يُخلصن في الحب، ويعشقن الزوج والأسرة. وهنّ حفيدات نساءٍ عمّرن وحدهنّ بيوتاً غاب جميع رجالها في الحرب العالمية الثانية، ومع شُحّ الطعام أو غيابه، زرعن أرضها بالبطاطا كطعامٍ وحيدٍ لأطفالهنّ بديلاً عن الموت جوعاً، وشاركن بأنفسهن في القتال، وعالجن جرحى جيشهنّ، وقدّمن أجسادهنّ هدية لجنود بلادهم، لا دعارةً، ولا حبّاً بهؤلاء الجنود، ولا اشتياقاً إلى متعة الجنس؛ فلا متعةَ تُرتجى مع جنديٍّ محتقنٍ إثر حربٍ طويلة. كان ذاك واجباً وطنياً، إراحة الجنود المحتقنين ليتابعوا قتال النازية.
الآن تغيّر الحال، تفكّك الاتحاد القديم وأصبحت روسيا وأوكرانيا عدوّتَين، وساق بوتين جيشه ليبتلع جارته وأخته، وقابله الجيش الأوكراني مدافعاً عن أرضه. الجيشان اللذان قاتل أجدادهما معاً كإخوةٍ ضدّ نازية هتلر، يقاتلان الآن بعضهما، وتُجبَر النساء الأوكرانيات على النزوح. هل لا تزال هؤلاء النساء هُنّ هُنّ بعد هذه الحرب العمياء؟ كيف أصبحن، وأية أسئلةٍ سوف يطرحن؟
حين يحلّ المرض، هل تختلف طبائع النساء من بلد لبلد؟
جاءني بعض جوابٍ قبل بدء المحاضرة، إذ سألتني إحداهنّ وعلى وجهها ملامح استنكار: "هناك أمرٌ لا أفهمه: أنتِ هي إذاً المحاضِرة القادمة من بلدٍ مسلم، لكنّك سافرة الرأس وترتدين تنورة قصيرة، وفوق هذا أنت طبيبةٌ تُحاضرين بنا بلغتنا لا بلغتك. لم أكن أتخيّل أنّ في بلادكم نساءً عاليات التعليم".
طردتُ كلّ الأجوبة الساخنة التي هجمتْ. بالكاد أجبتها بدمٍ بارد: "ها أنتِ ترينهنّ أخيراً"، فالمرأة الآتية للتوّ من حربٍ ملتهبة لن يكون بمقدورها سماع جوابٍ بسخونة سؤالها.
جوابي المنطقيّ كان بأن أَلقيتُ محاضرتي بثقة، والنساء بدورهنّ أصغين وتفاعلن، كما لحظتُ في عيونهنّ الهلع والهواجس المُختبئة والخوف من المرض، ومن عدم الوصول إلى مصدر المساعدة حين يحتجنها، ومن جهلهنّ بالنظام الصحيّ في ألمانيا وكيف تُعالج الأمراض فيها، ومن عجزهنّ اللغوي في بلادٍ غريبةٍ انسقن إليها طريدات، وكثيرٌ من الأسئلة التي لم يكُن من بينها واحدٌ ممّا خطر لي: "هل هناك علاج كيماوي لا يجعلني أفقد شعري؟"، و"هل تُقدّم ألمانيا لنا ثمن ثدي السيليكون التجميلي البديل بعد الاستئصال؟".
كانت تلك أسئلة الإنسان الغريق الذي لا يقوى على معرفة ما يريد. هي الحرب تُعيد الإنسان إلى المربّع الأول؛ حربٌ واحدةٌ لم تكد تبدأ في أوروبا المستقرّة منذ عقود، حتى أربكتْ هؤلاء النساء "عاليات التعليم" القادمات إلى بلدٍ يجهلن لغته ومنظومته، وجهلُ اللغة وحده غربةٌ تكبّل العقل.
من نافل القول إنني لن أنجو من مقارنتهنّ بنساء بلدي اللاجئات إلى ألمانيا، مع فارق أنّ الحكومة الألمانية تعاملتْ مع الأوروبيات "البيضاوات" بامتيازاتٍ لن تحظى بها أيّة امرأةٍ لاجئةٍ من العالم الثالث. في المحاضرات الشبيهة السابقة، طرحتِ النساء العربيات أسئلةً أكثر عَمَلية، حول مسؤولياتهنّ تجاه أجسادهنّ، وكيف يمكنُهنّ الاندماج في منظومة المجتمع المضيف، مقارنةً بما سألته الأوكرانيات عن حقوقهنّ التجميلية. كأننا تبادلنا المواقع: أوكرانيا البلد المنتمي إلى العالم الأول أو الثاني، وسورية العالمثالثية.
وإن كانت حكومات العالم الأوّل تحترم مواطنيها وتصون حقوقهم، إلّا أنها ومواطنيها ينظرون إلى أبناء العالم الثالث على أنهم متخلّفون، أو على الأقل باعتبارهم من درجة أدنى، وفق نظرة الاستشراق التي صاغوها هم أنفسهم، ولا يميزون فيها ما بين إنسانٍ فرد ومنظومةٍ ينحدر منها. أمّا الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث فتحتقر مُواطِنيها، وتُغيّبهم من ساحة أولوياتها وحتى ثانوياتها، بل تركلهم أسفل وأسفل. وأثناء مقاومتهم كي لا يسقطوا إلى حيث تدفع بهم تلك الأنظمة، يتفانون لينجزوا لأنفسهم واجباتها وواجبات مَن يحكمهم، بل وعليهم فوق ذلك أن ينظّفوا أنفسهم من سوء السمعة الذي وصمتهم به حكوماتُهم.
رغم ما سبق، تُصرّ المنظومات السياسية الغربية البيضاء، وكذلك مواطنوها، على حشر "الملوَّنين" من أبناء العالم الثالث كأفراد، حصراً في إطار تفكيرها النمطيّ.
بطاقة
طبيبة وكاتبة ومترجِمة سوريّة من مواليد مدينة السويداء عام 1967، تُقيم في ألمانيا، وتحمل إجازة في اللغة العربية من "جامعة دمشق". من أعمالها: "بلاد المنافي" (2010)، و"غورنيكات سورية" (2013)، و"في حنان الحرب" (2015)، و"منازل الأوطان" (2018). ومن ترجماتها عن الروسية: "الجمال جسدٌ وروح" لـ فاندا لاشنيفا (2014). حازت جائزة "كتارا للرواية العربية" عام 2018 عن روايتها "لا ماء يرويها" الصادرة عام 2017.