يقرأ جوزيف مسعد الصراع العربي الصهيوني من خلال فهمه المعمّق للتاريخ الأوروبي الذي أنتج معاداة السامية باعتبارها ركيزة أساسية قام عليها الكيان المحتل من خلال امتثاله للفكر الاستعماري الغربي الذي سعى إلى إخراج اليهود، بوصفهم "طفيليين" في أوروبا، وتوطينهم في فلسطين بعد تحويلهم إلى شعب منتج.
استند المفكر الفلسطيني، أردني الجنسية (1963)، إلى جملة من التنظيرات الفلسفية التي قادت إلى اختراع الصهيونية في محاضرته التي ألقاها مساء الأحد الماضي بعنوان "لماذا إسرائيل عدو أيديولوجي؟" افتراضياً على حساب "مجلة الآداب" البيروتية و"حملة مقاطعة إسرائيل - لبنان" في فيسبوك.
تعود جذور الصهيونية إلى حركة الإصلاح البروتستانتي
المحاضرة التي قدّمتها وأدارت الحوار عقبها الأكاديمية والباحثة رانيا المصري، طرحت تساؤلات مثل: لماذا "إسرائيل" عدو وجودي، وما هي الأهداف الأساسية والبعيدة المدى للمشروع الصهيوني، وهل تغيرت هذه الأهداف؟ وما هي العلاقة بين المشروعين الاستعماريّين؛ الأوروبي والصهيوني"؟
اختراع أثينا و"إسرائيل"
أوضح مسعد في مفتتح حديثه أن "هناك إساءة فهم للمشروع الصهيوني الذي تعود جذوره إلى مرحلة أقدم مع ظهور حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، التي دعا رموزها إلى تحويل اليهود إلى المذهب البروتستانتي وإعادتهم إلى فلسطين. ومع بدايات النهضة الأوروبية، قرّر أعلامها صناعة ماض معيّن لأوروبا عبر اختراع أثينا، حيث تمّ اختطاف اليونانيين من الشرق واعتبارهم مؤسّسين للحضارة الأوروبية، وفي الوقت نفسه تحويل اليهود الذين يعيشون في أوروبا ويتحدثون لغاتها من غربيين إلى شرقيين".
وأكد صاحب كتاب "ديمومة المسألة الفلسطينية" (2006) أن كلا المشروعين كانا يصبّان في مجرى واحد، في إصرار على اعتبار اليهود الغربيين فلسطينيين، واليونانيين أوروبيين غربيين، وأصبح هناك ترجمة وتأويل سياسيان لذلك في نهاية القرن الثامن عشر من خلال بناء بيزنطة الجديدة من قبل مفكرين يونانيين في المهجر، وإعادة القدس لليهود، وبذلك غدت القسطنطينية والقدس أهمّ مدينتين يجب استرجاعهما من الحكم العثماني.
يقول مسعد إنه، وفق هذا المنظور، تمّ تأسيس حركة قومية يونانية باسم "عشق الإغريق القدماء" والتي اعتبرت اليونانيين المسلمين أتراكاً، والمسيحيين الأتراك يونانيين على أساس طائفي، وكان هدف البروتستانت بالتوازي إعادة اليهود من أجل تعجيل ظهور المسيح، وقامت حرب مهمة هي حرب القرم من أجل استعادة فلسطين، وبدأ الأنغليكانيون تبشيرهم لتحويل المسيحيين الفلسطينيين واليهود إلى البروتستانتية، ثم أقامت بريطانيا أول قنصلية أوروبية في القدس عام 1838، وبعد ذلك بثلاث سنوات تم بناء مطرانية القدس الأنغليكانية، وكان أوّل أساقفتها يهوديا ألمانيا تحوّل إلى الأنغليكانية، باعتبار أن ذلك سيسرّع تحويل اليهود إلى الأنغليكانية.
ولفت أيضاً إلى أنه في نهاية القرن التاسع عشر، انتقل مستوطنون أميركيون وألمان "الهيكلييون" إلى فلسطين وقاموا ببناء مستوطنات لهم، وازداد الموضوع أهمية مع المحاولات المتزايدة لتحويل اليهود والفلسطينيين المسيحيين إلى الأنغليكانية، والذي لم يتم تبنّيه من قبل اليهود إلا بحلول عام 1880، حيث كان الحاخامات والمفكرون اليهود يرفضونه لأنه يعتبرهم "آخر" للمسيحي الأوروبي، وجرى استقطاب جزء صغير منهم لتأسيس مشروعهم الاستيطاني الزراعي، الذي يتشابه مع المشاريع الاستيطانية الزراعية الفرنسية في الجزائر أو في تونس، والإيطالية في ليبيا، إلى جانب مشاريع استيطانية استعمارية أخرى في أستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا.
لم تحدّد الحركة الصهيونية حدوداً لمشروعها الاستيطاني
بعد فشل الحركة البروتستانتية بتحويل اليهود إلى أنغليكانيين، تأسّس مشروع اسيتطاني لليهود الذين كانوا وبقوا أقلية بين كلّ الحركات اليهودية النافذة في أوروبا والولايات المتحدة التي رفضت الهجرة إلى فلسطين، بحسب مسعد، الذي رأى أن هذه الخلفية مهمة لفهم خلفية المشروع الصهيوني وارتباطه بالمشروع الاستعماري الأوروبي.
أهداف الصهيونية
ينتقل مسعد إلى قراءة بواعث الحركة الصهيونية التي أسّسها اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل عام 1897، والذي كان يطالب الفاتيكان قبل ذلك بتحويل يهود أوروبا إلى الكاثوليكية، وبدأت هذه الحركة الاستيطانية تبحث عن دولة أوروبية ترعى مشروعها الاستعماري الذي استند إلى أفكار دينية على نحو يشبه ما قام به البيض في الولايات المتحدة أو المستوطنون الأوروبيون في جنوب أفريقيا، تعتقد بوجود إله يعطي من يؤمنون به أراضي معينة.
وفي سياق موازٍ، يقول صاحب كتاب "اشتهاء العرب" (2007) إن مشروع إعادة بناء الحضارات القديمة قد اختطفته الحركة الصهيونية من حركات استعمارية أوروبية، كما في حال اليونانيين والروس الذين أرادوا استعادة بيزنطة، وإيطاليا وفرنسا في شمال أفريقيا بالعودة إلى أراضي الإمبراطورية الرومانية، وعلى غرارها تمّت محاولة إحياء مملكة داود عبر إقامة مستوطنة من يهود أوروبا بالتحالف مع القوى الأوروبية واستبطان رؤية الرجل الأبيض بـ"تحضير وتمدين" الشعوب البدائية ومنها العرب، حيث أنيطت فكرة استعمار فلسطين إلى اليهود، واعتقد هرتزل أن اليهود سيبقون شرقيين في أوروبا ولكنهم سيصبحون أوروبيين في فلسطين.
ويضيف: "برزت دعوات العديد من المفكّرين نهاية القرن الثامن عشر في فرنسا لاعتبار الزراعة أساس الاقتصاد الحديث، وعاداهم في ذلك بعض المفكرين اليهود لأن اليهود لا يمارسون الزراعة في أوروبا بشرقها وغربها، وتبنى أيضاً قياصرة روسيا منذ الإمبراطورة كاترين الزراعة التي كانت تمتد إلى مناطق القوقاز وتم استخدام اليهود في الأنشطة الزراعية من أجل تطهيرهم من أعمال التجارة والصيرفة التي كانوا يمتهنونها فقط، وهكذا بدأ الفكر الاستيطاني الزراعي لدى اليهود وهناك في فلسطين بدأ تحويلهم إلى منتجين بحسب الفكر اللاسامي الذي كان يعتبر أنهم يعيشون عالة على المجتمعات الأوروبية، وسيطر هذا التوجّه على الفكر الكولونيالي خلال القرن التاسع عشر، ولم تحد الصهيونية عنه أبداً".
"إسرائيل" عدو العرب والعالم الثالث
عاد مسعد في محاضرته إلى مفهوم التضامن مع الشعب الجزائري في نضالاته خلال فترة الاستعمار الفرنسي في العالم العربي والعالم الثالث، والذي حدث بصورة متشابهة بالنسبة إلى ليبيا بعد إعدام عمر المختار عام 1931، حيث اجتاحت مظاهرات مندّدة بالاستعمار الإيطالي من إسطنبول إلى أفريقيا، ورأى الكثيرون أن الاستعمارين الإيطالي والفرنسي يمسّان كل شعوب العالم الثالث، حيث "الأبيض" يدعي حق استعمار الآخرين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى لبنان، حيث كانت الحركة الصهيونية تستهدف السيطرة على جنوبه وصولاً إلى نهر الليطاني، وتآمرت مع اليمين المسيحي لبناء دولة طائفية، كما أنها استهدفت في غاراتها لبنان خلال الخمسينيات والستينيات، والمؤامرات لا تزال مستمرة.
وبيّن أن المشاريع الصهيونية تعدّدت خلال عقد بعد عام 1897، حيث طرحت بلاد عدة منها الأرجنتين وأنغولا وأوغندا وليبيا، وحين تم اختيار فلسطين تُركت حدودها غير محددة بحسب الظروف الاستعمارية، ولم تحدد في "إعلان الدولة" حيث اعتبر بن غوريون أن الشعب اليهودي هو من يقررها، وقد وضع قرار التقسيم حدوداً تشمل مساحة أقل من المساحة التي سيطرت عليها العصابات الصهيونية عام 1948، وظلّ موضوع الحدود مقتوحاً بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، حيث اشترى بعض المستوطنين أراضي في شرقي الأردن نهاية القرن التاسع عشر، ولا يزال حزب الليكود يطالب بشرقي الأردن حتى اليوم مقابل توجّه ليبرالي داخل الكيان يرى أن الأردن هو الدولة المتاحة للفلسطينيين، من أجل الإيقاع بين الشعب الأردني الفلسطيني الواحد.
العرب الذين اعترفوا بالكيان المحتلّ يُكرّسون دونيتهم
وأعاد مسعد إلى الأذهان كيف أن "إسرائيل" قامت بقصف العراق وتونس والسودان وتدخّلها إلى جانب الديكتاتوريات العربية منذ الستينيات، وقامت بقصف واجتياح مصر والأردن ولبنان وسورية، حيث لجأ في حرب الاستنزاف مثلاً حوالي مليون مصري من مدن القنال إلى مدن أخرى، أو في إسقاطها طائرة ليبية عام 1973، كما تدخّلت في بلدان أفريقية وفي أميركا اللاتينية عبر دعم أنظمة ديكتاتورية ضدّ شعوبها.
ديمقراطية المستعمرة
هل يمكن أن تصبح "إسرائيل" دولة ديمقراطية يوماً ما؟ في إجابته عن هذا السؤال، اعتبر مسعد أن ذلك "مستحيل"، معللاً ذلك بأن الفكر الصهيوني قائم على بناء دولة يهودية والمساواة موضوع غير مطروح، فبعد طرد 90% من الشعب الفلسطيني من أرضه أقرّت "إسرائيل" عشرات القوانين التي تميّز ضد الفلسطينيين، وحين لم تعد هناك أغلبية سكّانية يهودية في عام 2018 وعاد الفلسطينيون ليشكلون الأغلبية، تمّ إقرار قانون الجنسية لضمان الحقوق والامتيازات العرقية للمستوطنين اليهود بغض النظر عن عددهم، ووزنهم الديموغرافي، بحيث يتم قبول الفلسطينيين كأفراد من دون حقوق مواطنة كاملة، وتم تقسيمهم على منوال نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا (السود، الملونين)، حيث الفلسطينيون في المناطق التي أحتلت عام 1948، أعلى درجة من الذين يقطنون الضفة الغربية، وهؤلاء أفضل حالاً ممن يعيشون في غزة.
في المقاومة الأيديولوجية
يعتبر مسعد أن المقاومة الأيديولوجية جزء من المقاومة، حيث لا تزال "إسرائيل" تصوّر نفسها على أنها "روما الحديثة محاطة بالبرابرة"، موضحاً أن العرب الذين اعترفوا بالكيان المحتلّ يُكرّسون دونيتهم، فالعنصرية القائمة في "إسرائيل" تستهدف كل العرب وشعوب العالم الثالث، باعتبار اليهود عرقاً أبيض متفوقاً على من يحيط به، وهو تعبير عن عقدة مركبة حيث هم ينتمون إلى عرق أسمى من الغرب، لكنهم يريدون استرضاء الغرب الأبيض في الوقت نفسه.
وبيّن صاحب كتاب "الإسلام في الليبرالية" أن من أهداف حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) عودة اللاجئين وإنهاء النظام العنصري في الكيان، وهذا يفكك جزءاً كبيراً من الصهيونية، وتطرّق في هذا السياق إلى مقترح سلمان أبو ستة الذي يتضمّن خطة عملية لإعادة كل الفلسطينيين لا تفرض طرد معظم المستوطنين الذين يقيم معظمهم على أراضي تتبع الدولة وليست ملكية خاصة.
وأشار إلى أن تفكيك الصهيونية يعتمد على مجموعة من العوامل الداخلية في "إسرائيل"، وعلى إنهاء مشروع السلطة الفلسطينية التي تعادي الشعب الفلسطيني وتزيد بفسادها وقمعها من قوة "إسرائيل"، كما تفعل الأنظمة العربية المتحالفة معها، داعياً الفلسطينيين المقاومين إلى أن يستبطنوا فكراً ديمقراطياً اقتصادياً وليس سياسياً فقط، ما سيمنع بدوره إعادة ما حصل في جنوب أفريقيا مرة أخرى في فلسطين.
وشدّد مسعد على أنه لا يمكن نسيان ما وقع من استيطان وظلم واستعمار على يد الصهيونية، مستشهداً في هذا السياق بالكاتب الشهيد غسان كنفاني في رواية "عائد إلى حيفا"، الذي رأى أن الوطن هو المستقبل وليس الماضي، بحيث لا يمكن استرجاع ما كانت عليه فلسطين قبل احتلالها كما يتصوّر البعض، وأنه يجب التفكير بفلسطين محرّرة جديدة؛ محرّرة من الظلم والاستعمار، وبناء وطن جديد لا يستخدم القمع ضد الشعوب.