استمع إلى الملخص
- **نقد منهجي وتأريخي**: أضاف قرم مدخلاً نقدياً في 1998، محللاً أنظمة الإدراك والمقاربات المنهجية في الغرب والشرق، مستهدفاً كشف الخيوط الخفية التي تتحكم في تصرفات الدول الكبرى والأقطار العربية.
- **التأسيس لمنظومة فكرية عربية**: شدد قرم على ضرورة تأسيس منظومة فكرية عربية مستقلة، ناقداً أسباب فشل النهضة العربية وتأثير النفط على المجتمعات والعلاقات العربية.
في عام 1983، كان جورج قرم يضع اللمسات الأخيرة على كتابه السادس الذي سيدفع به إلى "دار غاليمار" الفرنسية ليُنشَر في العام نفسه تحت عنوان "Le Proche-Orient éclaté" (الشرق الأدنى المتفجّر)، قبل أن يُنقل إلى اللغة العربية بعد سنتين من ذلك بعنوان "انفجار المشرق العربي: من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان" (دار الطليعة، 1985).
هكذا، وبعد أربعة كُتب في الاقتصاد: "السياسة الاقتصادية والتصميم في لبنان" (1965)، و"الاقتصاد العربي أمام التحدّي" (1977)، و"التبعية الاقتصادية: مأزق الاستدانة في العالم الثالث من المنظور التاريخي" (1980)، و"التنمية المفقودة: دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية" (1981)، وخامسٍ حول "تعدُّد الأديان وأنظمة الحُكم" (1977) - وهو أطروحة الدكتوراه التي صدرت في باريس بالفرنسية عام 1971 - ذهب المفكّر اللبناني (الإسكندرية 1940 - بيروت 2024) إلى مشروعٍ أوسع، يتمثّل في كتابة تاريخ سياسي للمشرق العربي، يبدأ من 1956؛ سنةِ تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس وتعرُّض مصر، بسبب من ذلك، لعدوان عسكري فرنسي إنكليزي إسرائيلي، وصولاً إلى 1982؛ تاريخ الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
بقي المشروع مفتوحاً لأكثر من ثلاثة عقود؛ إذ ظلّ قرم يُضيف فصولاً جديدة إلى الكتاب مع كلّ طبعة، وصولاً إلى سنة 2012؛ أي إلى موجة "الربيع العربي" في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، وإن كانت ترجمتُه العربية (بل تعريبه على وجه الدقّة) قد توقّفت في عام 2006، حين صدر عن "دار الفارابي" في طبعة من قرابة 800 صفحة، بعنوان "انفجار المشرق العربي: من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956 - 2006). غير أنّ قرم لم يكتفِ، في الكتاب، بالسرد التاريخي للأحداث التي تناولها خلال تلك الفترات الزمنية بهدف "استكشاف الخيوط الخفيّة التي تتحكّم في تصرّفات كلٍّ من الدول الغربية الكبرى بمنظوماتها الفكرية والعلمية والأكاديمية تجاه منطقتها، وكلّ من الأقطار العربية ونظم إدراكها ونمط تصرّفاتها"، مثلما يرِد في المقدّمة، بل ضمّ إليه ما سمّاه "مدخلاً نقدياً ومنهجياً لطرائق كتابة تاريخ منطقة الشرق الأوسط"؛ وهو مدخلٌ من خمسة فصول أضافها عام 1998، وحلّل فيها تحليلاً نقدياً "أنظمة الإدراك" والمقاربات المنهجية والمصطلحات والعبارات والتسميات التي يستعملها الأكاديميون والصحافيون والسياسيون في الغرب والشرق عند تناولهم أحداث "المنطقة" (وهو التعبير الذي يتكرّر استعماله في الكتاب عندما يشمل التحليل دولاً غير عربية مجاورة للمشرق العربي وفاعلة في مصيره)، انطلاقاً من ملاحظة مفادُها أنّ تلك المقاربات والرؤى تتّسم بتناقضات تجافي الوقائع الموضوعية.
نقدٌ منهجي لتأريخ المنطقة هدفُه التأسيس لمنظومة فكرية عربية
يلاحِظ جورج قرم، في هذا السياق، أنّ تلك الرؤى تنبع من الأهواء والعواطف التي تتميّز بها القوى الدولية والإقليمية التي تتصارع من أجل النفوذ على المنطقة، وأنّ الأعمال الأكاديمية، الصادرة عن الجامعات الغربية، بما فيها أعمال الطلبة العرب، متأثّرةٌ إلى أبعد الحدود بمنظومات من المقولات والمفاهيم غير الدقيقة وغير المتناسقة، تأثُّراً يُسهم في تشويه صورة المنطقة العربية ومجتمعاتها، ليس تجاه الغرب فحسب، بل أيضاً تجاه الجمهور العربي نفسه، وهو لا يستثني الاتجاهات الإسلامية في الكتابة من "نظم الإدراك المشوَّهة" هذه.
لا يُخفي قرم أنّ هدفه من نقده المنهجي لتأريخ المنطقة، هو التأسيس لاستقلال فكري وثقافي عربي في النظرة إلى شؤون منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية فيها خاصّة، أو بعبارة أُخرى "تأسيس منظومة فكرية عربية يُبنى عليها نظام إدراكي متماسك يسمح برؤية الوقائع والأحداث في سياقها الحقيقي"، وهي مهمّة يعتبرها ملحّة، فـ"ما ينقص وطننا العربي هو هذا الاستقلال الفكري المبني على تراكُم معرفي متماسك"، والذي يضع غيابُه المثقّفين العرب تحت وطأة الظروف الآنية وآراء الدول الغربية بجامعاتها ووسائل إعلامها، فـ"لا يبنون أعمالهم على منظومة فكرية عربية - وهي مفقودة في الحقيقة - ولا يسعون إلى إبراز أعمال غيرهم من المثقّفين العرب وتطويرها؛ بل في معظم الأحيان نراهم يكرّسون جهودهم الفكرية للتصدّي لعوامل ونظريات ظرفية ولمناقشة آراء الباحثين الغربيّين حول العرب والمسلمين".
شدّد على ضرورة الوعي بعجز الرؤى المختلفة في تناول مشكلة الانحطاط
ولا يبدو تحقيق هذا الهدف، وفق منظور قرم، بمعزلٍ عن تفكيك ظاهرة الانحطاط المتواصِل للمجموعة العربية، عبر نقد منهجي للطروحات والآراء والمنظومات المفاهيمية الغربية، أو التي يعتمدها المثقّفون العرب، وتفحُّصٍ عميق لأسباب فشل النهضة العربية بين 1825 و1956، والوعي بعجز الرؤى المختلفة، الإسلامية والعربية العلمانية والغربية، في تناول مشكلة الانحطاط أو ما يسمّيه "دينامية الفشل"، التي يؤكّد أنّ ما يُميّزها هو التشابك الوثيق بين العوامل الداخلية والخارجية، إضافةً إلى عوامل اقتصادية عملاقة قليلاً ما أُخذت بالحسبان، تتمثّل في النفط، الذي يُشدّد على أنّ تأثيراته على المجتمعات العربية، منذ بداية استغلاله في القرن العشرين، لم تقتصر على تدخُّلات القوى الخارجية في الشؤون الداخلية، بل تعدّته إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية الداخلية والعلاقات بين البلدان العربية.
أنهى جورج قرم كتابة مخطوطة "انفجار المشرق العربي" بينما كانت بيروت، التي كان يُقيم في الجزء الجنوبي منها، تحت القصف الإسرائيلي (ومن المفارقَة أنّ نسخته المعرَّبة عام 2006 طُبعت خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف ذلك العام). وكان ذلك الحدث التاريخي، عند المفكّر اللبناني، مؤشّراً إلى انفجارات سيشهدها المشرق مستقبَلاً. يقول في أحد لقاءاته: "حين رأيتُ أن لا أحد تحرّك من العرب إزاء هذا الهجوم الوحشي على بيروت، عاصمة العرب الثقافية، بدا واضحاً لي أنّ المنطقة ذاهبةٌ إلى مزيد من التشتُّت والتجزّؤ والانفجار، بل إنّني طالما اعتقدتُ أنّ الحرب الأهلية اللبنانية كانت تحضيراً، أو بروفة، لما نراه اليوم في أكثر من ساحة عربية".