التشرّد عتبة أولى لتجربة الطفل السارق و"المنحرف" الذي سيلفت الأنظار لاحقاً بنصوصه ورؤيته النقدية ومواقفه الساخطة تجاه المؤسّسة، والقيم البرجوازية، والغرب في ادعاء التفوق على شعوب تنخدع بهذه الأكاذيب وتستبطنها في نظرتها لذاتها. في وجه كلّ ذلك صرخ جان جينيه ولا يزال صدى صرخاته مسموعاً إلى اليوم.
اعتبر الروائي الفرنسي (1910 - 1986)، الذي تمرّ اليوم السبت مائة وعشر سنوات على ميلاده، أنّ المنظومة الجزائية التي أدخلته السجن في سن مبكرة عقاباً على سرقته الأولى، هي المسؤولة عن الوقاحة والمكر والكسل الذي تولّده لدى الأحداث (الأطفال دون الثامنة عشرة) بذريعة إصلاحهم الذي اعتبره تدميراً لطفولتهم.
بهذه الكلمات القاسية واجه جينيه العالم لصّاً ومجرماً ومتشرداً قبل أن ينحو صوب الكتابة، ويكتب قصيدته الأولى داخل السجن عام 1942 بعنوان "المحكوم بالإعدام"، والتي يتناول فيها مواضيع تخصّ السجناء وافتتانهم بشخصية "البلطجي الوسيم" ونظرتهم إلى الحياة، والعلاقات المثلية بينهم، وسيقدّمه للقرّاء جان كوكتو الذي سيقدّم مع بيكاسو وسارتر التماساً بالعفو عنه، حيث سيخرج من السجن ولن يعود إليه ثانية.
عند خروجه أول مرة من السجن عام 1929، التحق صاحب "الخادمات" بالكتيبة الفرنسية التي خصّصت للأجانب والمتطوعين بالخدمة العسكرية كسباً للمال مثل حال جينيه، حيث قضى جزءاً في دمشق وفيها قاده حقده على بلاده الاستعمارية إلى التعاطف مع الشعوب المستعمَرة، وفي إحدى مقابلاته أشار إلى شعوره المزدوج تجاه الجنرال غورو كبطل ورجل حقير في الوقت نفسه، ليتخلّص منه لاحقاً ويعترف برغبته أن ينظر إليه السوريون نظرة جيدة.
من الطبيعي أن أكون مع كل الأعراق الأُخرى المضطهدة
بعد أكثر من نصف قرن، يقول جينيه في مقابلة أجراها معه الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس، ونُشرت في العدد الخامس من مجلّة "الكرمل": "نعم أنا عِرقي ضدّ البيض. أو بكلمة أدق ضد العِرق الأوروبي، ولهذا فمن الطبيعي أن أكون مع كل الأعراق الأُخرى المضطهدة"، وحين يسأله صاحب "ليلة سمر من أجل 5 حزيران" عما إذا كانت عدالة القضية بذاتها ليست هي التي تحدّد موقفه، يأتي جوابه قاطعاً: "اسمع.. ما ينبغي، وما اعتقدت أن عليّ دائماً أن أفعله هو تدمير الغرب، وحضارته. لذلك فإنني لا أستطيع إلا أن أكون مع الحركات التي تحارب الغرب، وتحاول زعزعته. إن إسرائيل هي أوروبا.. هي الغرب مزروعاً في بلادكم، ولهذا فإن عدالة القضية الفلسطينية هي بالنسبة لي بداهة".
تبدو استعادة مقولة جينيه اليوم ضرورة في زمن الهرولة نحو التطبيع، للتذكير مرّة أخرى بالمشروع الاستيطاني الأوروبي على أرض عربية، وعدم الوقوع في خديعة فصل الصهونية عن الاستعمار الغربي؛ فكراً وممارسة، والذي يعود جينيه للحديث عنه في موضع آخر من المقابلة، حيث يضيف: "للأسف، لقد لاحظت أنكم موشومون بالثقافة الغربية، وأنكم تشكلون أنفسكم وفقاً للنموذج الأوروبي، وهذا يعني أن الغرب اصطادكم في فخّه الماكر. لقد نجح في أن يصبح مرآتكم، وأن يحفر في أعماقكم شعوراً مستمراً بالنقص حياله".
ويلفت صاحب "شعائر الجنازة" إلى نقطة مهمة حين يقول: "وقد جاءت هزيمة حزيران، وهي بكل مظاهرها هزيمة أمام الأوروبي، لتعمّق شعوركم بالنقص، وتضاعف حاجتكم لأن تعكس لكم المرآة صورة مرضية، ولكن أية مفارقة؛ إنكم تبحثون عن صورة مرضية في مرآة لا يمكن أن تعكس لكم إلا سيماء الضعف والنقص والانسحاق. هذا هو الفخ الذي تتخبطون في حبائله. حين يصبح العدو هو بالذات مرآتكم ومرجعكم في الثقافة والسلوك والطموح، فإني أتساءل أين وكيف تأملون هزيمته؟".
درس بليغ يقدّمه كاتب لم يزعم يوماً أن فكراً ما يحرّكه، بل يعترف بأن جسده يتحرّك نصرةً للمضطهدين ثم يفكر بعقله، وقاده ذلك إلى اتخاذ مواقفه جميعها؛ نشاطه السياسي ضد قمع الجزائريين على يد الشرطة في باريس، وتأييده لحركة "الفهود السود" في الولايات المتحدة حيث زارهم وألقى محاضرات عليهم ونشر مقالات مجلاتهم، وكذلك في انحيازه للمقاومة الفلسطينية.
في شهادته "أربع ساعات في شاتيلا" التي كتبها بعد زيارة المخيم وتوثيق المجزرة، يسجّل جان جينيه: "المعركة من أجل البلاد يمكن أن تملأ حياة جد غنية، لكنها قصيرة".