"ثوَران".. تنويعات تشكيلية على الخوف والأمل

02 يونيو 2023
عمل للفنان الصيني تشينغ لو (من المعرض/ العربي الجديد)
+ الخط -

تدور دردشة بين الفنان العراقي محمود العبيدي وأحد المهتمّين، في المعرض الجماعي "ثوَران" (يستمر في "غاليري أنيما" بالدوحة حتى 10 حزيران/ يونيو الجاري) حول عمله المكوّن من 61 مكبَس بالوعة، شكّل منها على الحائط بالإنكليزية عبارة It sucks، ليجعل منها كنايةً تحمل صورة مكابس المراحيض، وفي ذات الوقت تعبيراً مباشراً عن انفعال الإنسان وضيقه من موقف أو حالة ما.

يسأل السائل عمّا رآه مغامرةً متطرّفة تحتاج إلى شجاعة، فيقول الفنان إن امرأة كندية (وهو يحمل الجنسية الكندية) سألته عن روح الأمل بدل هذا الإحباط الطافي على لوحاته، فقال لها وفي جواب للسائل في المعرض أيضاً، إنه عراقي أينما ولّى وجهه داخل بلاده ومحيطها، فلا يجد أيّما سبب يدفع هذا الإحباط.

أمّا التلقّي، فهو جانب آخر من جدلية الفن الذي لم يُغلِق في يومٍ صفحاته، ولم يسمح بعبارة "عفا عليه الدهر"، بل يفتح أبواباً يعبر منها من يقولون إنهم يتمرّدون على التقاليد. فالمستقبليون، في بداية القرن الفائت، هُم غير المستقبليين في الألفية الجديدة. أولئك كانوا أمام ثورة تقنية، وهؤلاء أمام ثورة رقمية لحقتها ثورة ذكاء اصطناعي، وما بينهما ثورة مفاهيمية ترى في نفسها مستقبلاً يجعل الإدراك الذهني موضوعها الفني.

عمل لـ محمود العبيدي (من المعرض/ العربي الجديد)
عمل لـ محمود العبيدي (من المعرض/ العربي الجديد)

يسأل السائل عن مكابس متوافرة في المحلّات، وغالباً في كل البيوت، وهي هنا مزروعة في عرض الحائط، والحائط ليس ملكاً للفنان. هو يملك الفكرة والتصميم الذي تخيّله لإدارة المساحة المتّفق عليها مع الجهة المنظّمة. ولهذا كان السؤال: إذا أمكن لأي شخص شراء مكابس مراحيض، ثم هندسة أبعادها على الحائط، فأين حدود أصالة هذا العمل من ذاك؟

سؤال كهذا لم يعد جديداً، كذلك فإن الإجابة لا تنوي الترفّع عن سؤال يتكرّر، بل تُواصل طرح نفسها، مراهنةً على تراكم منجزاتها وبالتالي مشروعيتها.

قال العبيدي مؤمّناً على كلام السائل في إمكانية أن يُنسخ العمل، إلا أنه قانونياً ثمة حماية للفكرة، تماماً مثلما يغنّي أيُّ مغنٍّ أغنية أصلية، لا تمنحه ملكيتَها.

أصبح الزوال، بدل الخلود، معطى فنّياً يتّسع مداه في أيامنا

إضافة إلى الفكرة غير التقليدية، وأمامها مقتنٍ متوقَّع غير تقليدي، فهناك ما يمكن قوله في أن الزوال -لا الخلود- أصبح مُعطى فنياً عند تيّار يتّسع مداه. فأين أعمال كريستو يافاتشيف الذي توفي عام 2020؟ ما أنجزه بالشراكة مع زوجته جان كلود موجود فقط في الصور الفوتوغرافية والفيديوهات وفي ذكريات الناس.

كان فنه يقوم على تغطية المعالم بالقماش، ليُخرجها مؤقّتاً من سياقها القارّ في العيون إلى سياق ذهني. علاقته الفنية بالمكان مشروطة بموافقة سلطات بلدية تأذن له بتغطية جسر في باريس أو قوس النصر، ثم بعد انتهاء مدة العرض عليه أن يلمّ قماشه ويرحل.


حلم متواصل

في تجربة الفنان اللبناني سعيد بعلبكي، سنكون في باريس أيضاً، التي سيقترض منها كلمة révolution. إنها مجسَّم أرضي على شكل تابوت خشبي في غرفة معتمة. المجسَّم مضاء بلمبات حمراء، فيبدو مثل لافتة نادٍ ليليّ.

لكنّ الكلمة الفرنسية، التي تعني "ثورة"، تستجيب لفكرة المعرض بذات طريقة محمود العبيدي بالإنكليزية. نحن أمام عمل تركيبي يمكن تكراره تقنياً، أمّا مفهوم العمل الذي يجعل منه فناً فهو المجسَّم الذي يقسم الكلمة إلى قسمين: واحد مضاء طوال الوقت (إلا إذا تعطلت الكهرباء لسبب ما) ويحمل كلمة rêve التي تعني "حُلُم"، والنصف الآخر ينطفئ ويُضيء. الأحلام التي فشلنا في تحقيقها تموت وتُدفن، ما عدا كلمة "حلم"، وهي حقّ البشري في إعادة التجربة من جديد.

عمل لـ سعيد بعلبكي (من المعرض/ العربي الجديد)
ثورة سعيد بعلبكي وحلمُه (من المعرض/ العربي الجديد)

في غياب الفنان بعلبكي تولّت الشرحَ غادة الشولي، مؤسِّسة "غاليري أنيما" الذي ينظّم المعرض في مشيرب بقلب الدوحة. 28 عملاً في تجربة "أنيما" الأخيرة تؤكّد أن الغاليري، منذ 2012، يمتاز في المشهد الثقافي القطري بأنه الأكثر جنوحاً نحو استقطاب فنّانين حول العالم من تيّار ما بعد الحداثة، وخصوصاً مَن يطرحون منهم فنّاً تجريبياً ومفاهيمياً متقشّفاً أمام الجزالة البصرية.


قبلة الصفيح

لنأخذ مثلاً هذه "القُبلة"؛ فهي ليست سوى صفيحين محدّبين، يقول الفنان اللبناني أناشار بصبوص إنه ترك الحديد تحت الطرْق يكتشف نفسه. والصفيحان من الخارج متقعّران، ومن الداخل تحدَّبَ الاثنان فالتقيا في الشكل المُوحي باللحظة الحميمة.

عمل لـ أناشار بصبوص (من المعرض/ العربي الجديد)
عمل لـ أناشار بصبوص (من المعرض/ العربي الجديد)

وعلى مقربة، سجّادة الصوف المصبوغة يدوياً للفنانة القطرية مريم الحميد، وعليها أشكال تجريدية هندسية. وما يظهر بأنه زخرفة، عليه أن يلتقي ذهنياً مع قصة هذه الأشكال التي هي رموز برمجة الكمبيوتر التي تقوم على رقمي صفر وواحد، وأن رمز الهاشتاغ والاستجابة السريعة (QR code) سيحيلان إلى موجات ضخمة على مواقع التواصل خلال مونديال قطر لكرة القدم.

تستخدم الفنانة أنستازيا نيستن، منذ سنوات، أشياء ضمن ديكورات البيوت، محاولةً استكشاف بنية العالم الحديث من خلال لغة الجسد ووسائل التواصل الاجتماعي، وكل ما يتعلق بالتقنيات التي تفصل بعضنا عن بعض.

عمل لـ أنستازيا نيستن (من المعرض/ العربي الجديد)
تنتقد أنستازيا نيستن، في عملها، هوس مجتمعاتنا الراهنة بالتملُّك (من المعرض/ العربي الجديد)

استلهمت في عملها بمعرض "ثوَران" المقعد العادي الذي يُسحب بشكل مرن ويدعو المستخدم إلى الاتّكاء، فهو ينعكس على لغة الجسد، ولكنها هنا استعملت الجلد الذهبي في نقدها لهوسنا المجتمعي بالممتلكات المادّية، وميلنا إلى إعطاء الأولوية للرفاهية على الاحتياجات الأساسية.


زوال بصري

القوالب الرقمية في أجهزة الحاسوب والهواتف النقّالة تشغل الفنان الألماني بيتر زيمرمان، لكنْ من زاوية لا تحمل حمولة رأي أو نقد، كما عند بعض المشاركين. فقد نقل القوالب الرقمية، مثل الصور أو الرسوم البيانية، والزخارف إلى لوحات زيتية تشبه المُرجان، ملتقطاً الزوال البصري لتكنولوجيا الوسائط الحديثة، ومترجماً إياها إلى وسيلة تقليدية.

عمل لـ أناشار بصبوص (من المعرض/ العربي الجديد)
استعادة همام السيّد لتفجير مرفأ بيروت (من المعرض/ العربي الجديد)

بأطراف أصابعه، يعالج الطلاء الزيتي مباشرة على ألواح الديبوند. وباستخدامه الأصابع يجعل عملية الرسم تبدو أكثر أصالة، ولكن في الوقت نفسه أكثر حداثة، مثل إيماءة الضرب على شاشة تعمل باللمس.


"على رؤوسنا"

سبق أن عرض الفنان السوري همام السيد في "غاليري أنيما" تجربةَ "صوت الصمت" عام 2019، ومن مقرّ إقامته في بيروت قدّم هذه المرّة لوحات زيتية ونحتَ برونز لبشر ذاهلين تحت وطأة الانفجار المدمّر لمرفأ العاصمة اللبنانية والانهيار الاقتصادي وانسداد الأفق السياسي؛ بشر لا يقفون على أرجلهم، بل -كما يعلّق- "لا يهم كيف يرمون بنا، نحن نسقط واقفين ولكن على رؤوسنا".

في ذات الغاليري تعرّفنا، لأول مرّة عام 2017، إلى الفنان الصيني تشينغ لو، في معرض "سيمفونيات السوائل". والماء في التجربة الحالية هو السائل ذو الاستعارة الكبرى التي تقيس التعلّم والثقافة في أساطير الصين القديمة. القرد، الحصان، الفيل؛ عليها أن تعبر النهر. بفضل خفّة حركته، يطفو القرد بسهولة. الحصان، رغم قوّته وقدرته، يمكنه فقط الوصول إلى منتصف المسافة. أخيراً، الفيل، الذي يرمز إلى القوة والمثابرة، هو الذي يقطع النهر.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون