لنبدأ من الصفحة 20 من مجموعة "هارمونيكا السفينة نشاز الطوفان" لعلي شمس الدين الصّادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت ضمن سلسلة "أصوات" الشّعريّة.
يقول: "يأتي باسل وأحمد/ نكتبُ قصيدة حُبّ/ نجلسُ مثل القراصنة متعبين/ كالشّرق الأوسط/ مثلَ بحر صور/ مثلَ كنبة أجلسُ عليها وأكتب".
الشعراء الثلاثة الشباب هم باسل الأمين وأحمد الأمين وعلي شمس الدّين. أصدقاء جنوبيّون من "الشرق الأوسط". وأمّا أنّهم شباب، فإنّ العمر يحدّد سنّ الشّباب بين السّادسة عشرة وصولاً إلى الثلاثين، تزيدُ قليلاً تنقصُ قليلاً، ما همّ هو عمر حيويّة جسديّة وتوق وقلق. نعرفُ في التّاريخ شعراء شباب مثل رامبو، الذي في الثامنة عشرة كتبَ شعره الجديد والمؤثّر أيضاً ("المركبُ السّكران" و"إشراقات") ولوركا قُتلَ في الرابعة والثلاثين من عمره بعدما كتب شعره العميق الغرناطي وشعر البحث عن الرّحم والرّوح العميقة الغنائية (الدوينده) روح الغجر وأندلس الأعماق. قد يكون أشهر شاعر عربي شاب هو الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد صاحب المعلقة الشّهيرة ومطلعها:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد/ تلوح كباقي الوَشْم في ظاهِر اليَدِ". وهي قصيدة الحكمة وفلسفة اللّذة الأبيقوريّة لمواجهة الموت.
ترسم الفروقات لكلّ شاعر منهم بورتريهاً خاصّاً به
سُمّي طرفة "الغلام القتيل"، وتقول الرواية إنّه كان بينه وبين ملك الحيرة مباهاة وخصومة، فعزم الملك على قتله، فأرسل معه إلى واليه على البحرين رسالة مطوية يأمره فيها بقتل طرفة. وحين وصلت الرّسالة نفّذها والي البحرين، لكنّه خيّر الشّاعر في طريقة موته، فاختار طرفة أن يشرب الخمرة ويشرب ويشرب وعِرقه ينزف دمهُ حتى الموت.
لا نسب مطلقاً بين طرفة والشعراء الثلاثة موضوع كلامنا، فهم بعيدون جدّاً عن التّراث الشّعري العربي باستثناء علي استثناءً قليلاً ونسبياً. وهم أبناء هذا الزمن بكل صفاته ومفرداته.
ويشترك الثلاثة في أنّ الحياة هشّة وبالشّعور بالنقصان. ينعكس ذلك على عدد صفحات كلّ ديوان مثلاً ("هارمونيكا".. 39 صفحة، "ظلّ ظنّ نفسه شخصاً" 99 صفحة، "المرآة جدار آخر" 54 صفحة). كما تقوم أيضاً على الاقتصاد في العبارة حيث الشّعر شذرات أو مقاطع قصيرة أو هو ملاحظات رجل هامشي لا يحلم بالنبوة ولا بالمجد. يقول أحمد: "في داخلي كرسي فارغ"، ويقول باسل: "نفضتُ يدي من كلّ شيء"، ويقول علي: "لا شيء سوى قلم النفوس الذي أخطأ في تهجئة الموت فأرّخهُ الولادة ".
كما يتّفقون بخفّة ضغط الأسلاف عليهم على خلاف بعض أسلافهم، حيث يضغط أنطونين أرتو على أنسي الحاج وسان جون بيرس على أدونيس وريني شار على عباس بيضون، وهكذا دواليك...
لا يبدو للناظر أنّ ثمّة فسحات واسعة لرومانسية الخلاص
فيذكر كلّ من علي وأحمد عبارة "الرأس المقطوع" دون أثر لأنسي الحاج على أيٍّ منهما، كما يذكر شمس الدين رياضَ الصالح الحسين، ويذكر باسل عبارة لربيع جابر "وحده المهزوم وصل إلى النهاية". ويمكن من هنا القول بعدم وجود ضغط للقراءة أو للترجمات على أصابعهم، وأكاد أقول إنّ شعرهم طالع للتوّ من احتكاكهم الجسدي اليومي بأشواك الحياة وصعوبة العيش لحظة بلحظة.
فيذكر كلّ من علي وأحمد عبارة "الرأس المقطوع" دون أثر لأنسي الحاج على أيٍّ منهما، كما يذكر شمس الدين رياضَ الصالح الحسين، ويذكر باسل عبارة لربيع جابر "وحده المهزوم وصل إلى النهاية". ويمكن من هنا القول بعدم وجود ضغط للقراءة أو للترجمات على أصابعهم، وأكاد أقول إنّ شعرهم طالع للتوّ من احتكاكهم الجسدي اليومي بأشواك الحياة وصعوبة العيش لحظة بلحظة.
هذا على أنّ الفروق بين هؤلاء الشّعراء تبرز مع المشتركات وترسم لكلّ منهم بورتريهاً أوّلياً خاصّاً به.
ظلٌ يظنُّ نفسهُ شخصاً
(باسل الأمين)
ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام: يد المهزوم.. ظل المهزوم.. قبر المهزوم.. المهزوم هو الإنسان في الشاعر والدرج تنازلي اليد فالظل. فالقبر اختصار الكائن باليد "يدك كانت تختفي". العبارة تحملنا هنا إلى بسّام حجّار في مجموعته "فقط لو يدكِ"، أرجّحُ تأثيراً له على باسل في هذا القسم.
لكنّه يمعنُ في اختزال الإنسان في القسم الثاني إلى ظلّ. في "ظلّ المهزوم" ليس الظلّ آية قرآنيّة أو معجزة "ولله يسجدُ من في السماوات ومن في الأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال" (الرعد - 15).
قال القرطبي: "السّجود هو الميل". لم يخطر ببال باسل هذا المعنى القرآني للظلّ على أنّه سجود الكائنات جميعاً لله، بل أخذ الظلّ على أنّه الصورة الهشّة والخفيفة للكائن، وأنه المحو والتلاشي للإنسان. "الرجال يهاجرون"... "نحنُ العشبُ الضار"... "أشخاص ضئيلون"... "أنا لا أريد أن أكون"... كلّ هذه العبارات مستلّة من القصائد. ثمّ إنّه لا يرغب في فتوحات أو أمجاد ولا يشغلُهُ معنى ميتافيزيقيّة الظلّ. فقط التلاشي لينتهي في القسم الثالث إلى "قبر المهزوم" فتكتملُ بذلك حلقات القصيدة والحياة الهشّة، لكن بمعنى ما هذه هي الحياة الحقيقية.
هارمونيكا السفينة نشازُ الطّوفان
(علي شمس الدين)
لا يستقيم على إيقاع واحد، وقد يكون السبب في ارتطامه بالحياة يولّد في شعره اهتزازات وصرخات هي أشبه بمسّ كهربائيّ في جسد. وطبيعة هذا الارتطام لا تحتمل الإسهاب حتّى يبدو وكأنّه يقضمُ الحياة قضماً.
العنوان جديد وصادم يحملُ أبعاداً صوريّة وموسيقيّة، كما ينطوي على طِباق (تضاد) غنيّ الدِّلالة بين الهارمونية والنّشاز. ما يميّز علي قدرته على إدخال اللّغة في تجربة مزدوجة من الكاميرا والإيقاع الموسيقي، ويظهر ذلك في قصيدته، وهي قصيدة واحدة مقطعيّة من 26 مقطعاً تدلُّ قارئها على اطلاع صاحبها على شيء من التراث الشعري العربي وعلى بعض خبرة بالوزن، لأنه يبدأ عدداً من المقاطع بوزن المحدث (فعلن) لكنّه لا يلبث أن يجنح الإيقاع الحرّ لقصيدة النثر. مثلاً: "آخر ما يتركهُ الدفُّ على الأقدام - موزونة"، وأيضاً: "ترقص أو تنحدر تحت الثوب - حرّة غير موزونة"، وهكذا.
تبدو الصّورة لدى شمس الدين فانتازيّة يحرّكها خيال سينمائيّ أو موسيقيّ، وكذلك مدعومة بسيل من الصّور السينمائيّة، وكأنّ عين الشّاعر هي كاميرا متنقّلة: "الرّعب تدلّى والشّارع ضاق تنفّسهُ والشمس تراوغُ وعيون من حمّى...".
ومن الممكن أيضاً إيجاد مخيّلة صورية لها علاقة بالرّسم أو بشيء منه، كذلك نجد أنّ لديه تعدّد أصوات أو ما يسمّى الكورس. مخيّلة شمس الدّين خصبة مفتوحة على كلّ شيء وعلى لا شيء. يقول: "أصغت أختي الصغيرة للرصاص فظنّته المسيح". هذه الفنتازيا في المعنى تجعل أيّ ترابط عقلي للعناصر الشّعريّة مستبعداً، بل نحن أمام شطح مخيّلة وأحياناً أمام تداعيات لغويّة.
أساس القصيدة الميثولوجي علاقة السفينة بالطوفان، لكنه حين يعبّر عن الميتافيزيق (الله) يدخل في لحم الواقع الحيّ والدامي والبؤس. يقول: "أذكر لم يغادرني الله بل أنا/ أذكر هزمت/ يا الله/ أيتها الروليت/ يا مدينة الملاهي/ أيها الكورنيش البحريّ/ كم سعر صرف الفقر...". هنا لغة أُخرى، ولو شئنا، شعرٌ آخر مغاير للسائد والمعروف، "أغني أغنية للربّ تخرج منها الأغنام والضواري معاً". الربّ ليس بعيداً بل قريب جدّاً ويكاد يلامس الأصابع. كلّ ذلك نراه ونبصره في مقاطع مختزلة حرّة، وكأنّ الشّعر هو هذه العبارة الضيّقة التي تصبحُ أكثر ضيقاً وحرجاً كلّما فاض المعنى بحسب النفّري.
المرآةُ جدارٌ آخر
(أحمد الأمين)
لا أحسب أنّ أحمد الأمين قرأ ديوان الشّاعر اليوناني يانيس ريتسوس "عبر الحائط في المرآة" لأنه لا لمسات ريتسوسيّة على مقاطع شعره. والأرجح أنَّ "المرآة جدار آخر" تعكس انسداد الرؤية، لذلك نراه يهدي مجموعته "إلى كلّ غريب". نرى أمامنا القصائد فصولاً طالعة من الاحتكاك المباشر والأوّلي بالعيش اليوميّ، من ارتطام مباشر بالحياة. يقول: "لاحقاً عندما كبرت/ عرفتُ أنَّ يدي غير كافيين لاصطحاب يديك في نزهة/ أو لأسرّح شعركِ حين يأخذك التّعب". هنا الشعر صورة محسوسة للنقص والقلق. لا أوهام بالبطولة ولا شطح في الخيال. هنا الشعر يبدو كإناء مكسور جماله في كسره وفي جروحه يقول: "أنت أمام المرآة فوق المغسلة/ أفكّر أن صورتي تبدو أجمل فوق الخدوش".
وهذه ببساطة حساسية أُخرى وجديدة في الشعر، وهو كصاحبَيه في الشعر أكثر ميلاً للصمت منه للصراخ. بل هو موغل في الصمت وهذا جميل. "الصّمت أحلى يقول المستوحدون.."، و"تعوّدت على السكوت حتى كاد فمي يختفي".
ولا يبدو للناظر أنّ ثمّة فسحات واسعة لرومانسية الخلاص لدى أحمد الأمين.. فالحبّ مثلاً كما يقول لعبة خاسرة، ولم يمنعه من أن تنزلق الحياة من بين يديه خلسةً، وحتّى الشّعر لا يوليه أهمية استثنائية كمخلّص، بل أقصى ما يصبو إليه هو أن يتكلّم. يقول: "أنا إنسان بسيط كل ما أريده هو البوح". وهذا أيضاً معنى جديد في الشّعر. إنّه شعر يوميات بسيطة بلا أمجاد بلا أحلام. يمضي مباشرة للأشياء للأشخاص للأسماء للأماكن بذاكرة خفيفة لا شيء مهيّأ ليحفر عميقاً. حتى الحزن الحب الصداقة الأهل الدّيار والإهداء كما أسلفنا "إلى كلّ غريب".
* شاعر من لبنان