"الإسلاموفوبيا هي الشيء الوحيد الذي اتّفق عليه اليمين المتطرف، واليسار التقدمي في إيطاليا". هكذا وصف دافيدي بيكاردو ـ رئيس تحرير صحيفة لا لوتشي الإيطالية ـ الخطاب الإعلامي حيال الإسلام في إيطاليا، في تقديمه لندوةِ: "الإسلاموفوبيا: عام تحت المجهر"، والتي كان المفكّر الصقليّ بييترانجيلو بوتافووكو أحد ضيوفها، وهو أحد الوجوه الفكرية التي تشكّل حالة استثنائية في المشهد الثقافي الإيطالي من حيث أنه لا ينتمي لأي فصيل أيديولوجي في إيطاليا.
استقلالية فكرية أكسبت بوتافووكو احتراما نادرا في بلد مقسّم على نحو صارخ بين جبهتين سياسيتين، لا يهدأ بينهما الصراع البتة حيال أي قضية. في كتابه "كاباريه فولتير" يقول بوتافووكو: "اليمين ليس سوى يسار في مرحلة النضج. والحرب على المقدّس التي لم يتمكن اليسار من إتمامها، يُكملها اليمين الغربي على نحو أكثر فعالية، ليس من خلال البناء العقلاني للعلم، ولكن من خلال الرّايات والشعارات الواهمة عن الحريّة والديمقراطية...".
"من 2008 تاريخ كتابة هذا الكلمات، إلى وقتنا هذا لا تزال الحرب على المقدّس قائمة على نحو أكثر توحّشا"، هكذا علّق بوتافووكو على مقدّمة بيكاردو، مؤكّدا على أن الإسلاموفوبيا ليست سوى أحد مظاهر الحرب الشعواء التي يخوضها الغرب على المقدّس، وتُعتبر الدعوات الأخيرة إلى إلغاء نصوص هوميروس من المقررات المدرسية في أميركا أحدث تمثلاتها. في إشارة إلى مطالبات أتت تحت هاشتاغ #DisruptTexts لإلغاء تعليم الأوديسة في المدارس من حيث أنها تمثل "نصّا ذكوريّا وعنصريّا"، وهي حملة أثارت الكثير من الجدل في أوروبا وأميركا، وانتهت بتصريح لهيذير ليفين، معلمة من ماساتشوستس قالت فيه بغبطة لصحيفة "وول ستريت جورنال" قبل أيام قليلة من نهاية 2020: "فخورة جدا بالإعلان عن إلغاء الأوديسة من المقرّر الدراسي".
"الأوديسة ليست نصا غربيّا وإنما فكرة أزلية عن البطولة تنتمي للإنسانية بأسرها، تنهل من روافد روحية، والتّعرض لها ليس سوى أحدث تجليات المساس بالمقدّس". هكذا علّق بوتافووكو على "الحرب على فكرة المقدّس" بمطلقها والتي يقودها اليسار التقدمي عندما يتعلق الأمر بالمقدس الغربي واليمين المتطرّف عندما يتعلق الأمر بالمقدّس الإسلامي في أوروبا. مع ملاحظة أن اليسار الإيطالي يعمل بشكل دؤوب على الجبهتين، إذ لا تخلو مقالات "إل مانيفستو" في اليسار المتطرف من خطاب إسلاموفوبي مُضمر، مع معارضة أسلوب الكراهية الصريح للجبهة اليمينية، وهي المقاربة التي أكسبت اليسار الإيطالي صفة النفاق بامتياز في الأوساط الشعبية، أو ما أطلق عليهم دافيدي بيكاردو في ذات الندوة عن الإسلاموفوبيا اسم "الأصدقاء المزيَّفين للمسلمين" في إيطاليا. وقد ألقت ظاهرة "هدم المقدّس" في تمثلاته الإسلاموفوبية بظلالها الثقيلة أيضا على الأدب العربي المترجم إلى الإيطالية في السنوات الأخيرة.
يساهم "العربي الكاره لنفسه" في تفشي الإسلاموفوبيا
فالمتابع لنوعية الترجمات الصادرة في السنوات العشر الأخيرة عن العربية، لا يمكن له إلا أن يقف على خلفية أيديولوجية تطغى على الأعمال المترجمة بشكل يكاد يُبطل أي قيمة فنية للأدب العربي ويخلعه كليا من جذوره الحضارية. ليتحول الشاعر العربي ـ الذي قدّم للعالم في أزهى عصوره أعمالا لا تقل قيمة عن الأوديسة ـ إلى إحدى أدوات البروبغندا الخاضعة لأجندات سياسية مُهيمنة تمثّلها دور نشر كبرى على غرار موندادوري المملوكة لعائلة برلوسكوني زعيم حزب "فورتسا إيطاليا" اليميني من جهة، أو لعبة أطفال بخطاب انهزامي هزيل، بين يدي مثقّفي اليسار الإيطالي المهرولين وراء كل موضات الصوابية السياسية الأميركية.
وأمام هذا المشهد الفكري الغارق في الحسابات الأيديولوجية التي تصب في دعم الإسلاموفوبيا الصريحة منها، وتلك المدسوسة ضمن أنساق مُضمرة، يظهر كِتابٌ مختلف "لا يخوض في الدين ولا في السياسة، وإنما في الشعر من حيث أنه التعبير الأقرب إلى كُنه الإنسان، والموحّد على هذا الأساس لكل البشر". هكذا قدّمت لاورا دي لوكا، رئيسة تحرير راديو فاتيكانا، كتاب "رحيق الشعر العربي ـ الإسلامي. من الجاهلية إلى القرن العشرين" في حوار مع الكاتب فرانكو تشيلينتسا حول عمله الذي صدر قبل أسابيع قليلة عن دار نشر Puntoacapo الإيطالية.
لماذا هذا العمل؟ وفي هذا التوقيت بالذات؟ يقول تشيلينتسا وهو شاعر ومؤرخ فني وكاتب مسرحي أن الدافع الرئيسي وراء وضع هذا المؤلّف هو المساعدة على تجاوز الأحكام المسبقة إزاء الإسلام، إذ إن فكرتنا عن الإسلام حاليا ليست هي أبدا ما يعكسه الشعر العربي، ذلك أن "كل ما نعرفه عن العالم الإسلامي هو نتاج نشرات الأخبار... وكل ما يكتنفها من دماء. وهو ما لا علاقة له بأربعة عشر قرنا من شعر متحرّر فكريا يكتبه مسلمون".
وقد اختار تشيلينتسا في حواره الإذاعي أبياتا للشاعر الجاهلي عُبيد بن الأبرص، ليدلّل على قدرة الشعر العربي على التعبير عن تعقيدات النفس البشرية على مر العصور، عاد فيها لأبيات شهيرة متفرقة من معلقة عُبيد: "قَد يوصَلُ النازِحُ النائي/وَقَد يُقطَعُ ذو السُهمَةِ القَريبُ. مَـنْ يَـسْــألِ الـنَّـاسَ يَـحْرِمُوهُ/ وســــائِــلُ اللهِ لا يَــخـــيــبُ. وَالمَرءُ ما عاشَ في تَكذيبٍ/طولُ الحَياةِ لَهُ تَعذيبُ". خيار يؤكّد عن تغريد الكاتب خارج سرب الخطاب المتفشّي لهدم المقدّس على حد تعبير بوتافووكو.
وهو الالتزام الذي أظهره ماورو فيراري مدير دار النشر في تقديمه للكتاب على صفحة الدار منذ أيام، حيث أكد على أهمية هذا الشعر الذي يتغني بالحبّ والمقدّس ما يجمع في النهاية كل البشر، ويجعل من الشعراء العرب والمسلمين شعراء خالدين، كما شدّد على ذلك تشيلينتسا، وليسوا شعراء لحظات تاريخية عابرة.
هذا التوجه الجريء لإظهار الشعر العربي كشعر جامع يمكن للجميع أن يجدوا أنفسهم فيه، في مقابل التوجه الذي يزجّ به ضمن خطاب فئوي، يظهر من خلال المختارات الممتازة التي انتقاها المؤلف لأبرز الشعراء العرب كان أولهم امرؤ القيس، وآخرهم فدوى طوقان. مع حرص الكاتب على مرافقة خياراته الشعرية بقراءات تاريخية للقصيدة العربية، ومصاحبتها بخلفية عامة عن تطور الشعر العربي في عصوره المختلفة. فإلى أي مدى نجح الكاتب في ذلك؟
في أحد منشوراتها على صفحتها الرسمية على فيسبوك تقول الشاعرة الإيطالية البارزة ماريا غراتسيا كالاندروني "الشعر هو نظام لغوي غير اعتباطي تتآلف فيه الموسيقى، مع الذكاء والإحساس. إذا كُتب عن سذاجة أو (أسوأ) عن موقف أيديولوجي، واجتُزئ منه أحد هذه العناصر، ستنتج قصيدة عرجاء، تميل كلها لجهة واحدة، كسيحة لن تتمكن من الوقوف على قدميها بمفردها. من يكتبها سيكون مجبرا إذن على إنعاشها بسلسلة من المقدمات والحواشي والتبريرات (غالبا هي أكثر ذكاء من النص الشعري نفسه...)".
ولربما هذا التصريح لكالاندروني أتى للتعقيب على حيلة تسويقية منتشرة في إيطاليا تقضي باستكتاب نقاد ووجوه ثقافية بارزة لوضع مقدمات لأعمال "بسيطة"، على أمل أن ترفع المقدمة من قيمة العمل. وقد رافقت الكثير من الأنطولوجيات الشعرية العربية في السنوات الأخيرة مقدمات نقدية رنّانة أثرت البيبليوغرافيا الذاتية لكتّابها، لكنها تركت النصوص المُلحقة بها تسبح وحدها في هواءِ ركاكتها الطلق، دون أن تتمكن كل "المقدمات والحواشي والتبريرات" على حد تعبير كالاندروني من إنقاذ تلك النصوص من حالة الكساح الشعري الذي تعاني منه.
أما في حالة "رحيق الشعر العربي والإسلامي" فقد طغى جمال شعر الشنفرى، وجميل، وأبو العتاهية وجلال الدين الرومي ونزار قباني، وغيرهم (مع تفاوت في جودة الترجمة باختلاف المترجمين) على القراءات التي رافقت النصوص والمقدمات التي سبقتها والحواشي التي لحقتها. وقد يكون مردّ ذلك ارتباطها ببيبليوغرافيا ضمّت عناوين كُتبٍ لمؤلفين من أمثال مجدي علاّم ـ كان آخر إصداراته كتاب بعنوان "أوقفوا الإسلام" (2020) ـ ومنى الطحاوي "لماذا نكره أنفسنا"، أدونيس "العنف والإسلام". حامد عبد الصمد "القرآن. رسائل حب، رسائل كره". وهو ما عكس رغبة الكاتب في تقديم صورة "موضوعية" عن سياق وِلادة النص الشعري العربي وظروف تطوره، بالاعتماد على مراجع لكتّاب عرب أو من أصل عربي تكلموا بلسانهم على ثقافتهم، اتقاءً للشبهة الاستشراقية وحيث إن أهم ترجمات القصائد الواردة في الكتاب أتت للمستشرق الإيطالي الشهير فرانتشيسكو غابرييلي، الذي يعدّ من أبرز المدافعين عن النهج الاستشراقي في مقاربة الأدب العربي، إلا أن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" كان حاضرا هو الآخر ضمن مراجع المؤلف.
ترجمات تحاول خلع الأدب العربي من جذوره الحضارية
هذا الحرص على جعل "التابع يتكلم" بتعبير غاياتري سبيفاك، جعل نصوص العرب المتكلمين بكره الذات تحل محل النصوص الاستشراقية. وذلك في غياب عربي تام للتنظير لهذه الظاهرة التي استفحلت أدبياتها في الغرب، وأصبحت تشكّل أحد روافد التنظير للخطاب الإسلاموفوبي في أوروبا. ويعد كتاب "الانتحار الغريب لأوروبا: الهجرة، الهوية والإسلام" (2017) لدوغلاس موراي من أبرز الأعمال التي اعتمدت على كتب كراهية الذات لتبرير الإسلاموفوبيا. إلا أن كِتابا مهما يسعى للتعريف بالأدب العربي في إيطاليا ككتاب تشيلينتسا لا يجعلنا نستغرب تماما من الاعتماد على هكذا مراجع، في ظل شحّ المراجع غير المنحازة بالإيطالية، وغياب تام لاستراتيجية عربية حقيقية لتمويل ترجمات مناهضة للسرديات الاستشراقية، أو سرديات "العرب الكارهين لذواتهم" المطلّين من كل المنابر، إذ تكفي الإشارة بأن مجدي علام مثلا بدأ حياته الصحافية في إيطاليا من جريدة "إل مانيفستو" في أقصى اليسار قبل أن يصل إلى "ليبيرو" في أقصى اليمين من دون أي تحول في خطابه المعادي للإسلام.
وفي الوقت الذي جرى فيه تحليل ظاهرة "اليهودي الكاره لنفسه" بأدوات سيكولوجية وتاريخية خلص فيها المنظّرون إلى أن خطاباتها تندرج ضمن جريمة معاداة السامية، قد يكون من المناسب لمراكز البحوث العربية البدء بدراسة وتشريح ظاهرة "العربي ـ المسلم الكاره لنفسه" لأن دوره في تفشي الإسلاموفوبيا في العالم غدا ظاهرا أكثر من أي وقت مضى، وقد بدأت انعكاسات هذا الخطاب بهدم صورة الشعر العربي الحضارية نفسها التي وصفها تشيلينتسا في كتابه أنها "عبقرية عربية فطرية كانت ملهمة لشعوب كثيرة".
عبقرية سقطت مؤخرا من أغلب خيارات الترجمة الإيطالية (على غرار سقوط الأوديسة في أميركا بحكم الصوابية السياسية) ليحلّ محلّها شعر الخضوع للموضات الأيديولوجية. وهو شعر لم يجد له مكانا ضمن مختارات "رحيق الشعر العربي" لفرانكو تشيلينتسا الذي انتقى برهافة فنان أجمل المُترجم من الشعر العربي في إيطاليا. ما يجعل من مختاراته إحدى أرفع الأنطولوجيات الصادرة عن الشعر العربي بالإيطالية في السنوات الأخيرة، في انتظار أن تُثرى المكتبة الإيطالية بترجمات ودراسات أدبية حديثة بتمويل عربي تعكس جوهر الثقافة العربية، بعيدا عن أجندات الإسلاموفوبيا الصريحة منها والمُضمرة.
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا