تراث بنين الثقافي: رحلة العودة إلى الديار

31 مارس 2022
إحدى القطع المستعادة معروضةً في متحف "كيه برانلي" في باريس قُبيل نقلها إلى بنين (Getty)
+ الخط -

بعد عقود مِن استعادة بلدان القارّة الأفريقية سيادتها، لا يزالُ معظَم ممتلكاتها الثقافية والفنّية المنهوبة خلال الفترة الاستعمارية موجوداً في المتاحف الأوروبية. ليس قليلاً ما جرى نهبُه؛ إذ تُشير تقديراتٌ رسمية إلى أنّ ما بين تسعين وخمسة وتسعين في المئة من التراث الثقافي الأفريقي موجودٌ اليوم خارج القارّة.

في فرنسا، التي تُحصي لوحدها أكثرَ من تسعين ألف قطعة مِن التراث الأفريقي، بدأَت منذ قرابة أربع سنوات عمليةٌ لإرجاع أجزاء منه. فخلال زيارة له إلى بوركينافاسو في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب ألقاه بـ"جامعة واغادوغو"، عن رغبته في عودة التراث الأفريقي إلى وطنه الأُم، ضمن ما سمّاه "إعادة توجيه السياسة الثقافية الفرنسية إزاء أفريقيا"، مُحدِّداً جدولاً زمنياً يمتدُّ إلى خمس سنوات لإتمام العملية.

عُدّ خطابُ ماكرون، الذي تحدّث فيه أيضاً عن "جرائم الاستعمار الأوروبي" في أفريقيا، "تاريخياً"؛ فقد كانت تلك المرّة الأُولى التي يُعلن فيها رئيسٌ فرنسيٌّ عن استعداده لإعادة الآثار الأفريقية المنهوبة. قبل ذلك، سعى رؤساء البلاد (كان بعضُهم، مثل جاك شيراك، يُعبّر عن إعجابه بالفنّ الأفريقي) إلى الاحتفاظ بتلك المسروقات.

بعد ثلاثة أشهر من خطابه، وتحديداً في آذار/ مارس 2018، أعلن ماكرون عن تكليفه خبيرَين ثقافيَّين؛ هُما: المؤرّخة الفنّية الفرنسية بنيديكت سافوي (1972) والباحث والأكاديمي السنغالي فلوين سار (1972)، بإعداد دراسة حول الممتلكات الثقافية الأفريقية في فرنسا، تمهيداً لإعادتها إلى بلدانها الأصلية. وبالفعل، أعدّ الخبيران تقريراً جرى نشره في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وتضمّن إضاءات تاريخية حول نهب الأعمال الفنّية من المستعمَرات الفرنسية السابقة في أفريقيا، خصوصاً بين 1885 و1960، وجرداً تفصيلياً لعشرات الآلاف مِن القطع التي يُفترض أنّها معنية بالإعادة، وتوصيات حول سُبل إعادتها.

تتصدّر تشاد قائمة البلدان الأفريقية التي نهبت فرنسا آثارها

تصدّرت تشاد قائمةَ البلدان الأفريقية التي نهب الفرنسيّون آثارها برقم قارب 9200 قطعة، تلتها الكاميرون (7800 قطعة)، ومدغشقر (7500). أمّا في ما يتعلّق بالمؤسّسات الفرنسية، فقد تصدَّر "متحف كيه برانلي" (أسّسه شيراك عام 2006، ويقع على مقربة من برج إيفل في باريس) القائمةَ بسبعين ألف قطعة، قرابةُ نصفها قد يكون معنيّاً بالإعادة، حسب التقرير.

جاء إعلانُ ماكرون عن تكليف سافوي وسار بتلك المهمّة في ختام لقاء جمعه بـ باتريس تالون؛ رئيسة بنين التي كانت قد تقدّمت، في تمّوز/ يوليو 2016، بطلب رسمي إلى باريس لاستعادة جزء من تراثها الثقافي؛ حيث يوجَد ما لا يقلّ عن خمسة آلاف قطعة من آثارها في مجموعات فرنسية عامّة وخاصّة. جزءٌ كبير من تلك القطَع نهبته بعثاتٌ "ثقافية" وتبشيرية بين سنتَي 1892 و1894، وهي قطَعٌ تعود إلى "مملكة داهومي" التي أسّسها شعب الفون حوالَي عام 1600 للميلاد في بنين حالياً (باتت تحمل هذا الاسم عام 1975)، وأصبحت قوّةً إقليمية، قبل أن تبدأ بفقدان نفوذها في نهايات القرن التاسع عشر، لينتهي بها الأمرُ عام 1892 تحت الاحتلال الفرنسي، وتُضمَّ إلى "مستعمرة غرب أفريقيا" الفرنسية عام 1899.

لم يكُن تصريح ماكرون، في واغادوغو، بأنّه لا يستطيع القبول بفكرة أنّ جزءاً كبيراً من التراث الثقافي الأفريقي لا يزال موجوداً في فرنسا، كافياً. فدونَ إعادة هذا التراث إلى بلدانه الأصلية عقباتٌ كثيرة أبرزُها قانونية؛ إذ ينصُّ قانون التراث الفرنسيُّ على مبدأ عدم التصرُّف بالممتلكات الثقافية العامّة.

في تاريخها، لم تقم فرنسا بسَنّ قوانين خاصّة لإعادة "ممتلكات" تاريخية إلى بلدانها الأصلية سوى ثلاث مرّات؛ كانت الأُولى في نيسان/ إبريل 2002 حين صوّت البرلمانُ الفرنسي على إعادة رفات سارتجي بارتمان (1789 - 1815)، الذي كان موجوداً في ما يُسمّى "متحف الإنسان" بباريس، إلى جنوب أفريقيا، (تنحدر بارتمان من قبيلة يُعتقد أنّها من أُولى القبائل التي سكنت جنوب أفريقيا، وقد جرى استغلالُها في أوروبا بإخضاعها لدراسات تشريحية، قبل أن يجري عرضها عاريةً في سيرك بريطاني وآخر فرنسي). المرّةُ الثانية حين صوّت، عام 2012، على إعادة رؤوس لمجموعة من محاربي "الماوري" (سكّان نيوزيلندا الأصليّون)، والتي كانت موجودةً في "متحف روان للفنون الجميلة" شمال غربي البلاد.

ثم صوّت البرلمان، وتلك هي المرّة الثالثة، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2020، على إعادة أصول ثقافية إلى بنين والسنغال. ويتعلّق الأمر بسبع وعشرين قطعةً أثرية موجودة في "متحف كيه برانلي". لكنّ النواب رفضوا مقترحاً بتشكيل لجنة لدراسة طلبات إعادة مماثلة.

جزء كبير من تراث بنين نهبته بعثات "ثقافية" بين 1892 و1894

بناءً على ذلك، وفي أكبر عملية إعادة لآثار أفريقية إلى موطنها الأصلي، أعادت فرنسا في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي ستّاً وعشرين قطعةً أثرية إلى بنين (القطعة السابعة والعشرون سيفٌ تاريخي للزعيم الديني السنغالي الحاج عمر تال الفوتي). وكانت تلك نهايةً سعيدة لمفاوضات بين البلدين استغرقت سنتَين، وأيضاً نهاية رحلة طويلة دامت قرابة 130 عاماً. لكنّها ستكون، من جهةٍ أُخرى، بدايةً لرحلة جديدة؛ إذ أعلن رئيس بنين، باتريس تالون، أنَّ بلاده ستطلب من مستعمِرها السابق إعادة قطع أُخرى لا تزال تحتفظ بها.

هذه الآثار، التي جرى استقبالُها في موطنها الأُم باحتفالات شعبية ورسمية، باتت محورَ معرض تحتضنه كوتونو منذ العشرين من شباط/ فبراير الماضي وحتى الثاني والعشرين من أيار/ مايو المقبل.

يحمل المعرض عنوان "فنُّ بنين أمس واليوم: من الإعادة إلى الكشف". وقد أُنشئ متحفٌ بمساحة ألفَي متر مربّع خصّيصاً لاحتضان القطع التي تُعرض للمرّة الأُولى أمام الجمهور في موطنها الأصلي منذ أن نهبها الاستعمار الفرنسي من "قصر أبومي" في مملكة داهومي عام 1894.

تتمثّلُ القطع الفنّية المعروضة في عروش وتماثيل مَلكيّة؛ من بينها تمثال نصفه بشري ونصفه الآخر سمكة قرش، وصوالج وأبواب مقدّسة. وجميعُها كانت ملكاً لـ بيهانزيم؛ آخر ملوك داهومي الذي اعتقله جيش الاحتلال الفرنسي عام 1894 وقام بنفيه إلى جزيرة المارتينيك، بينما تكفّل قائدُ الجيش، الجنرال دودس، باختلاس تلك القطع ونقْلها إلى ما وراء البحار.

المساهمون