تأنيث الترجمة

21 مايو 2022
بشيرة تريكي بوعزيزي/ تونس
+ الخط -

من أقوال الشيخ الأكبر ابن عربي المشهورة: "كلُّ مكان لا يؤنّث لا يُعوَّل عليه"، والتي يرويها بعضُهم بصيغة "ما لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه"، وهو قول يؤكّد المكانة المركزية التي تَشغلُها المرأةُ في فكره، إذ اعتبرها تجلّياً للجمال الإلهي.

وإذا كانت الفلسفة القديمة قد غبنت المرأة قدرها، إلى درجة أن عُرِف عن أفلاطون أسفُه لكونه ابنَ امرأة، وأن اشتُهر نيتشه في العصر الحديث بقولته "إذا ذهبتَ إلى المرأة فلا تنسَ السوط"، فإن الفيلسوف رونيه ديكارت، في مقدّمة كتابه "خطاب المنهج"، أبدى موقفاً نسويّاً لافتاً عن المرأة، واهتماماً كبيراً بها بصفتِها قارئةً وذاتاً واعية، في رسالة وجّهها إلى الأب فاتْيِيه، في شباط/ فبراير 1638، وأكّد فيها أنّ "هذا الكتاب أردتُ أن تفهم النساء شيئاً منه".

اللّافت في مضمار الأدب الكوني، هو أنّ الموقف من المرأة كانَ مختلفاً تماماً عمّا في الفلسفة، بدليل هذا الكمّ الهائل من المؤلَّفات الأدبية شعراً ونثراً بأجناسها المتنوّعة، التي تحفل بأسماء النساء، وبالأدوار التي قمن بها أو أُسندت إليهنّ، بل وبالكتابات الكثيرة التي كتبنها ونافسن بها الرجال.

أمّا في مجال الترجمة، فقد اشتُهر أنّ مُزاويلها منذ القِدم كانوا رجالاً، خصوصاً رجال الدين، الذين عُرفوا بإنجازهم "الترجمة السبعينيّة" للعهد القديم في القرن الثالث قبل الميلاد، واستمرّت هيمنةُ الرجال على المجال إلى يومنا هذا، خصوصاً في عالمنا العربي، بينما المرأة المترجِمة في الغرب حقّقت مكاسب كبيرة، إذ لا تكاد تخلو سَنة من حصول المرأة على جائزة مهمّة للترجمة، ولعلّ آخرها "الجائزة الوطنية للترجمة" في إسبانيا التي أحرزتها المترجمة المغربية - الإسبانية مليكة مبارك الجديدي. أمّا في العالَم العربي، فعلى الرغم من أنّ لنا مترجمة كبيرة هي سلمى خضراء الجيوسي، وأُخريات، فإنّه لم تُمنَح لهنّ جائزة للترجمة، في حدود عِلمي، باستثناء فوز المغربية سناء الشعيري، سنة 2018، بـ"جائزة المغرب للكتاب" مناصَفةً عن ترجمتها لرواية "العاشق الياباني" لـ إيزابيل ألليندي، وفوز خلود عمرو بالمركز الثالث في نسخة عام 2019 من "جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي".

كلُّ ترجمة لا تقاوم هيمنة الذكورية هي تكريسٌ لها

لا تحتاج الترجمة إلى أن تؤنَّث، لأنّها أصْلاً مؤنّثة في لغتنا وفي لغات أُخرى بعلامة التأنيث التي تدلّ على ذلك، وبحجّة الأعداد الهائلة لطالبات الترجمة والباحثات في قضاياها المتنوّعة، في المعاهد والمدارس العليا في جميع أنحاء العالَم، ومع ذلك فإنّ ما أرومُه هو إثارة إشكال آخر، أظنّ أنّ له قيمته في ضوء ما يشهده العالَم من تطوُّر في الوعي النسوي، وما يقترن به من خطاب يواكبه ويُؤازره.

في الواقع، إذا كانت الكاتبات العربيات يَكدْنَ لا يكترثْن للترويج للأيديولوجيا النسوية في كتاباتهنّ، إمّا لعدم وعيهنّ بالخطاب النسوي، وإمّا تفادياً لأيّ اصطدام مع مؤسّسات المجتمع الذكوري، فإنّ المترجِمات العربيات يُكرّسن الذكورية بعدم مقاومتهنّ لهيمنة الأخيرة، وإنْ كنّ يصادِفن في كتابات المترجِمات الغربيات تحريضاً صريحاً على الدفاع عن الأيديولوجيا النسوية، بتَبنِّيهنّ لاستراتيجيات ترجمية نسوية، خصوصاً عند المترجِمات الكنديّات واللاتينيات في أميركا الجنوبية.

وممّا لا شكّ فيه أنّ المترجِمات العربيات، وهُنّ يقرأن أو يُترجِمن، يعين المهمّةَ المنوطة بهنّ في التنوير، ونشر ثقافة المساواة والمناصَفة في الترجمة، وضرورة تصريف ذلك الخطاب النسوي في ممارستهنّ الترجمةَ وغيرها من الأعمال والمواقف والأنشطة، والذي أساسُه - حسب إسْتيل فريدمان - "الاعتقادُ بأنّ النساء والرجال لديهما بالتلازم القيمة نفسها"، ومع ذلك فالمُدهش لديهنّ أنهنّ، شأْن الكاتبات، لا يستحضرن بتاتاً الموقف النسوي في ترجمتهنّ نُصوصاً تكون نسوية في أصلها، وذلك لعمري عينُ الخيانة التي تُتَّهم بها الترجمة منذ قرون سحيقة.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون