بورفيريوس الصوري.. فيلسوف هلنستي نقَد سقراط ونشَر أفكار أفلوطين

28 يناير 2023
رسمٌ لمناظرة خيالية بين ابن رشد وبورفيريوس الصوري يعود إلى القرن الرابع عشر (Getty)
+ الخط -

تتجاوز تأثيرات الفيلسوف بورفيريوس الصوري (234 - 305 للميلاد) الزمن الذي عاش فيه، لتصل إلى العصر الذهبي للفلسفة الإسلامية، ولتدخل أفكارُه في صلب عقائد الصوفية، والفِرق الباطنية، إسلامية كانت أم غير إسلامية، فهو الشارح الأكبر، والناشر لأفكار معلّمه الفيلسوف المصري أفلوطين (205 - 270 للميلاد)، وليكتب في مسيرة حياته فصلاً مهمّاً من فصول نهاية الثقافة الهلنستية في حوض المتوسط، على يد المسيحية الناهضة.


ملك يتّشح بالأرجوان

الشائع على نطاق واسع أن بورفيريوس ولد في مدينة صُور على الساحل الفينيقي، ولذلك نُسب إليها، ولكن ثمّة معطيات تشير إلى أصلٍ آخر أبعد من الولادة في صور، ومنها أن صيغة اسمه في لغته الأصلية ملكو (Malchu)، وهي صيغة نبطية - آرامية، إن جازت التسمية، وليست فينيقية "ملك" كما يُفترض بحُكم ولادته في عاصمة فينيقيا. وفي ذلك يقول بورفيريوس إن غريمه الفيلسوف أميليوس جنتليانوس التوسكاني؛ كرّس أحد ردوده لشخص اسمُه باسيليوس، ويقول إنّ كلمة باسيليوس التي تعني المَلك باللغة اليونانية، هي ترجمةٌ لاسمه في لغة قومه أي ملك، وهي تُعادل اللقب الذي أُطلق عليه، أي بورفيريوس (الأرجواني)، في معنى مجازي للملك، لأن الملك في تلك المرحلة كان يتّشح بالأرجوان.

وبالإضافة إلى القرينة اللغوية ثمة قرينة أُخرى، تُشير إلى أن أصل بورفيريوس يعود إلى منطقة البثنية، وهي محافظة درعا الحالية، جنوبي سورية، حيث وصفه القدّيس المسيحي جيروم الدلماسي (340 - 420 م) في تعليقه على رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية بقوله: "يزعم البثني التافه والشرير، المشهور باسم بورفيريوس في كتابه ضّدنا (يقصد كتاب بورفيريوس ضدّ المسيحيين)؛ أن بولس الرسول يلوم بطرس الرسول بأنه يُخطئ في التبشير. إنه يريد أن يصف بطرس بالخطأ، وبولس بالوقاحة، وأن تعليمهما مزيّف، وأن رؤساء الكنيسة يختلفون مع بعضهم البعض، وقد حان الوقتُ للإجابة عن الاعتراضات واحداً واحداً". 

وقد هجا جيروم بشدّة هذه المنطقة التي كانت تسمّى في زمنه بالولاية العربية، إذ قال إنها "منبع الهرطقات"، وبناء على ذلك شتم جيروم بورفيريوس بهذه الشتيمة "البثني التافه والشرير"، لأن العربية في نظره كانت المكان الذي يخرِّج كلّ هؤلاء المجدِّفين. وبمعزل عن رأي جيروم، يتضح أن ثمة قرينة ذات وجاهة حول الأصل النبطي، أو الإيطوري لبورفيريوس، على اعتبار أن منطقة البثنية كانت مسكونة من الإيطوريين المنتمين للمجموعة ذاتها العربية - الآرامية، إن جازت التسمية، تماماً كما هو حال الأنباط.


تلميذ أفلوطين

لا يعرف الكثير عن طفولة بورفيريوس، ولكن المؤرّخ الكنسي سقراط سكولاستيكوس القسطنطيني (380 - 439 م) ادّعى بأنه وُلد مسيحياً، أو اعتنق المسيحية خلال فترة وجيزة من حياته، وهو ادّعاء نفاه الكثير من الدارسين المعاصرين. وقد ذهب في شبابه إلى أثينا لدراسة الفلسفة والرياضيات والنحو والبلاغة، على يد معلمه الشهير لونجينوس الحمصي (213 - 273 م)، معلّم زنوبيا أيضاً، وهو الذي أطلق عليه اسمه المحبّب بورفيريوس (أي المتّشح بالأرجوان)، كما يقول المؤرّخ أونابيوس 
(349 - 420 م).

الصورة
أفلوطين - القسم الثقافي
تمثال رأسي من رخام لأفلوطين المصري (205 - 270 للميلاد/ Getty)

وحين وصل الفيلسوف المصري أفلوطين إلى روما، حيثُ كان تحت رعاية تلميذه الفيلسوف الثري زيثوس العربي، انتقل بورفيريوس أيضاً إلى روما، وبدأ يتقبّل أفكار معلّمه ويتمثّلها، بل أصبح أهم الشارحين للأفلاطونية الحديثة والناطق باسمها نيابة عن معلمه، بعد أن كان أرسطياً. وفي تلك الفترة اعترته الكآبه، وحاول الانتحار، فنصحه معلّمه بأن ينتقل إلى صقلية في عام 268 م، وهناك أُتيح له وقت كبير للتأمّل، ونَسْخ وتنقيح محاضرات معلّمه التي دُعيت بـ"التاسوعات"، وهي الكتاب المقدّس للأفلاطونية الحديثة. وبسبب ظروفه لم يستطع أن يلبّي دعوة معلّمه لونجينوس الحمصي بالتوجّه إلى بلاط زنوبيا، والمشاركة في طاقم المستشارين الفلاسفة الذي انضمّوا لها برئاسة لونجينوس نفسه. علماً أن معلمه أفلوطين غادر روما للعيش في تدمر خلال تلك الفترة، وصحبه في رحلته إلى هناك تلميذه إميليوس جنتليانوس، ولكن حالته الصحية تدهورت، فعاد إلى روما ليعاني من مرض الاستسقاء، ويموت بين يدي تلميذه بورفيريوس.


رئيس مدرسة في روما

في روما ترأّس بورفيريوس مدرسة فلسفية، وتتلمّذ على يديه عددٌ من الفلاسفة أشهرهم يمليخوس الخلقيسي (245 - 325 للميلاد) القادم أيضاً من سورية، وكذلك ثيودوروس الأسيني، إضافةً إلى تلميذ من الأُسر النبيلة هو كريساوريوس، وهو سياسي روماني كان سيناتوراً، وفي وقت لاحق أصبح قنصلاً. وقد تزوّج بورفيريوس في خريف حياته من أرملة تُدعى مارسيلَّا، كان لديها عدد من الأولاد الذين تولّى رعايتهم. وقد زاد عددُ مؤلّفاته في الفلسفة على ستينَ عملاً، إضافة إلى كتب أُخرى في الدين، والأساطير، والبلاغة، والنحو، والنقد الأدبي، وعلم الفلك، ونظرية الموسيقى. ولم ينجُ من أعماله إلا النزر اليسير نتيجة حملات الحرق والإتلاف، التي استهدفت مؤلّفاته في العصر البيزنطي، إذ اعتُبر واحداً من أسوأ المجدِّفين ضدّ المسيحية، أما أهمّ الكتب الناجية له فهو كتاب "إيساغوجي"؛ أي المدخل، وهو الكتاب الذي أثّر عميقاً في الفلسفة الإسلامية، ونُسب في بعض الأحيان خطأً إلى أرسطو. 

تأثير على الفلسفة الإسلامية

عنوان كتاب "إيساغوجي" الكامل هو "مدخل لمقولات أرسطو"، ولكنه يتجاوز المقولات ليصل إلى المنطق الأرسطي، وقد كتبه بلغة مبسّطة تصلُح للمبتدئين، أثناء إقامته في صقلية، بناء على طلب تلميذه كريساوريوس. 

يفترض بورفيريوس في هذا المدخل أنّ القارئ على دراية بمحتوى كتابات أرسطو عن المقولات، أو الأصناف بترجمة أُخرى، إذ إن أرسطو كان يعترف بعشرة أصناف واقعة خارج نطاق اللغة، وهي: الجوهر، والكيفية، والكمّية، والنسبية، والمكانية، والزمانية، والوضعية، والملكية، والفاعلية، والانفعالية. وبالاعتماد على مقولات أو أصناف أرسطو العشرة، يضع بورفيريوس خمسة مفاهيم أساسية هي: الجنس، النوع، الفرق، المواءمة، والعَرَض. ويطرح بورفيريوس أسئلة تتعلّق بالمصطلحات العامة حول الأنواع، والأجناس التي أصبحت موضع خلاف كبير في العصور الوسطى، ما إذا كانت الأنواع والأجناس موجودة كحقيقة مستقلّة، أم هي فقط قضايا فكرية نظرية؟ وما إذا كان وجودها المستقلّ ينبغي أن يفسّر على أنه وجود مادي أو غير مادي؟ وما إذا كانت مرتبطة بالإدراك الحسي أم هي موجودة بشكل مستقلّ عن الإدراك؟ ولا يجيب بورفيريوس صراحة على هذه الأسئلة ويترك الأمر للتحقيق اللاحق.

الصورة
شرح إيساغوجي - القسم الثقافي
من أحد المتون الإسلامية لشرح "إيساغوجي"، المنسوبة لأثير الدين الأبهري (ويكيبيديا)

ويبدو أن كتاب "إيساغوجي" نُقل بداية من اليونانية إلى السريانية في القرن السادس الميلادي، ثم منها إلى العربية من جانب أيوب بن قاسم الرقي، كما يقول ابن النديم (توفي: 994 للميلاد)، في كتابه الموسوعي "الفهرست"، وهو من معاصريه. وثمة ترجمة أُخرى للكتاب متداولة حتى اليوم، من ترجمة الطبيب الدمشقي أبو عثمان سعيد بن يعقوب (توفي: 914 للميلاد). 


سِير الفلاسفة

من كتب بورفيريوس المهمّة، والتي نجَت منها فصول واسعة، كتابُ "تاريخ الفلسفة" المكوّن من أربعة مجلّدات، وهو كتاب يتضمّن سِير الفلاسفة المهمّين من وجهة نظر بورفيريوس، ومن بعده الأفلاطونيين الجُدد. وبحسب ما وصلنا؛ فإن المجلّد الأول تضمّن من بين ما تضمنه من موضوعات الحديث عن الحكماء الإغريق السبعة وهم: صولون الأثيني، وخيلون الإسبرطي، وطاليس، وبياس البرييني، وكليوبولوس اللندوسي، وبيتاكوس المليتوسي، وبرياندر الكورنثي، إضافة إلى سيرة فيثاغورس التي لم يصلنا منها إلا شذرات. 

واللافت من المقاطع التي وصلتنا عن الفيلسوف سقراط؛ هو النقد الواضح لتعاليم هذا المعلّم، والتي يعزوها الباحثون المعاصرون للمصدر الذي نقل عنه بورفيريوس، وهو الفيلسوف المشائي أرسطاكاس (375 - 335 قبل الميلاد)، المُعادي لسقراط.

وبعد سنوات من وفاة أفلوطين، قام بورفيريوس بترتيب وتحرير كتابات معلّمه الراحل، ونشرها في عام 301 ميلادي، تحت عنوان "التاسوعات"، واسمُها مأخوذ من تقسيمها إلى ستة أجزاء، ولكل جزء تسعة فصول. وقد نشر سيرة معلّمه كمقدّمة لكتاب "التاسوعات" تحت عنوان "حياة أفلوطين". وهذه السيرة واحدة من أكثر المؤلّفات المكتوبة حول حياة الفلاسفة قِيمة، فبالإضافة إلى غزارة المعلومات عن معلّمه أفلوطين، وكذلك عن معلّمه لونجينوس، وعنه هو شخصياً، تضمّنت السيرة الكثير من الأخبار والإشارات المتعلّقة بالحياة الفلسفية، والأفكار في ذلك الوقت، باعتباره شاهد عيان، وليس محرّراً لأخبار منقولة عن مصادر قديمة. وقد امتاز سرد الكتاب بالبلاغة والتكثيف، حتى عُدّ من نوادر النثر المكتوب باليونانية في ذلك الوقت، وعن طريق هذه السيرة تعرّفنا على عدد من الشخصيات التي كاد يكون مصيرها النسيان لولا هذا الكتاب.


عن العفة والطعام النباتي

في كتابه "عن العفّة" المكوّن من أربعة فصول، يشرح بورفيريوس لتلميذه كاستريسيوس فيرموس الأساسَ الأخلاقي للامتناع عن أكل لحوم الحيوانات، والاكتفاء بتناول الطعام النباتي. ويقدّم الحُجج المقنِعة لتلميذه وصديقه كاستريسيوس الذي ابتعد عن هذا النظام الغذائي. وينتقد بورفيريوس الأضاحي الحيوانية، التي لا تتناسب مع ممارسة الديانة المستندة إلى تصوّرات فلسفية. ويقول إن طريقة حياة الفيلسوف تتطلّب من بين أمور كثيرة نظاماً غذائياً خالياً من اللحوم. ويؤكّد أن هضم اللحوم يتسبّب بإجهاد للجسم، كما أنّ الحصول على اللحوم وتحضيرها معقّد للغاية، ويصرِف الانتباه عن مهامّ الفيلسوف، وهو ترفٌ لا يتوافق مع زهد الفلاسفة. 

ولدعم حُججه، يستشهد بمجموعة كبيرة من المعلومات المستندة إلى الأدبيات القديمة، والتي فُقد معظمها الآن. وفي الفصل الرابع يقدّم بورفيريوس عرضاً مهمّاً لتاريخ الحضارة، من زاوية تطوّر النظام الغذائي عند الإغريق ومختلف الشعوب. كما أنه يستشهد بأسطورة "عصور الإنسان"، التي ظهرت ضمن أعمال الشاعر الإغريقي هيسيودوس، الذي عاش بين 750 و650 قبل الميلاد، حيث اعتبر هيسيودوس أن مسار العصور يسير من سيئ نحو الأسوأ، وقسَّم العصور إلى: "ذهبي"، و"فضي"، و"برونزي"، و"بطولي"، و"حديدي". ويؤكّد هيسيودوس أنه في العصر الذهبي، قبل ابتكار الفنون، أنتجت الأرض الغذاء بوفرة ولم تكن هناك حاجةٌ للزراعة. ويقول بورفيريوس لدعم حجّته إن الإنسان في العصر الذهبي لم يستخدم العنف لا ضدّ الإنسان ولا ضدّ الحيوان.


ضدّ المسيحيين

على خُطى معلّمه أفلوطين الذي كان مُعادياً لفكرة الدين؛ كتب بوفيريوس كتابه "ضدّ المسيحيين" في خمسة عشر فصلاً، ولكنّ العمل لم ينج بكامله؛ لأن مخطوطاته دُمّرت بشكل منهجي بعد انتصار المسيحية، ومع ذلك، تُمكن إعادة بناء الحجج التي ساقها من الاقتباسات الكبيرة التي تمّ الاحتفاظ بها في مؤلّفات الآخرين.

الصورة
 بورفيريوس في بورتريه لإتيان جيهاندييه (1668 - 1741/ Getty) - القسم الثقافي
بورفيريوس في بورتريه لإتيان جيهاندييه (1668 - 1741/ Getty)

يقدّم بورفيريوس في كتابه الحُجج ذاتها التي لا تزال تتردّد حتى اليوم حول نقد المسيحية، ويتَّبع منهجَ نقد تاريخي للكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، نافياً اعتباره وحياً إلهياً. ومن خلال مجموعة من الحجج المنطقية؛ يصل إلى نتيجة أن العقيدة المسيحية غير عقلانية. 

ويمكن إجمال أهم النقاط التي تناولها في كتابه وفق ما يلي: Hنه انتقد بشدّة التفسير المجازي للقصص الكتابية، معتبراً أن هذا المنطق يمكن أن ينسحب على أي شيء، فمثلاً يمكن تفسير قصة أخيل وهيكتور في الإلياذة بشكل رمزي، فأخيل يمكن اعتبارُه المسيح، وخصمه هيكتور هو الشيطان. ومع أنه ليس ضدّ فكرة التفسير الرمزي من حيث المبدأ، إلّا أن تطبيق التفسير الرمزي على قصة غير مناسبة هو المشكلة، في رأيه، إذ إن الهدف الأصلي من وراء ذلك، كما يقول، هو إخفاء التناقضات الساذجة في قصص الكتاب المقدّس. 

وينتقد بورفيريوس محاولات المسيحيين تفسير فقرات "التناخ" (أي العهد القديم) على أنها نبوءات تتعلّق بظهور المسيح مستقبلاً، وبالتالي إثبات أن يسوع هو المسيح التوراتي. وفي هذا الصدد، ركّز نقده لـ"سفر دانيال"، حتى يتوصّل إلى استنتاج مؤدّاه أن هذا الكتاب لم يُكتب إلّا في القرن الثاني قبل الميلاد، أي بعد حوالي أربعة قرون من الزمن المُفترض لشخصياته التاريخية. ولذلك، يقول إنه يجب أن يُنظر إلى "سفر دانيال" بناء على الزمن الذي كُتب فيه. واللافت أن وجهة نظر المدارس النقدية الحديثة للكتاب المقدس؛ تتطابق مع استنتاج بورفيريوس، بشأن سفر دانيال، ووفق القرائن والشواهد التاريخية ذاتها.

ومن انتقاداته النصية لتعاليم يسوع، تحليله لسوية الخطاب الموجّه أساساً للبسطاء والجهلة، ويستشهد بإنجيل متى: "فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَالَ يَسُوعُ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الأبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ" (متى 11:25)، حيث يرى أنه من غير المناسب أو المنطقي أنّ يسوع تكلّم بأمثالٍ غامضة تتطلّب تفسيراً وهو يتحدّث أمام جمهور بسيط. ويقول: "كان عليه أن يعبّر عن نفسه بوضوح، وأن يُكيّف طريقته في الكلام مع الفهم المحدود لمستمعيه حتى يُفهم".

ويشير بورفيريوس بالتفصيل إلى الاختلافات بين الأناجيل الأربعة، ويستشهد بمقاطع محدّدة ليقول إن الإنجيليين لم يكونوا على دراية بـ"التناخ". بالإضافة إلى ذلك، يقول إن الرُّسل انقسموا في ما بينهم، كما يتّضح من الصراع بين بطرس وبولس. ويقول أيضاً: "لو كان المسيح هو الله، لكان الله قد عانى على الصليب، وهذا لا يتفّق مع طبيعته، لأن الله لا يمكن أن يتعرّض للألم". ويُضيف: "لو كان الله حقاً قد تدخّل في زمان ومكان معينيّن من خلال ظهوره على شكل المسيح، وبالتالي أتى بخلاص المسيحيّين، لكان أولى أن يُعطي الخلاص للأجيال السابقة، ولكلّ الذين لم يعرفوا عن ذلك شيئاً، بمن في ذلك موسى الذي حُجبت عنه تعسّفاً إمكانية الخلاص".


تناسُخ الأرواح

درس بورفيريوس الكثير من القضايا الإشكالية وعلق عليها؛ من قبيل: "مغارة الحوريات" في ملحمة الأوديسة، ورسالة إلى زوجته مارسيلّا التي يوضّح فيها سبل الخروج من معاناة الوجود الأرضي، ورسالة إلى الكاهن المصري أنيبو التي يطرح فيها أسئلة نقدية حول طبيعة الآلهة المصرية والشياطين الصالحة، والتعاليم الفلسفية التي يتعاملون معها، والعلاقة بين البشر والآلهة في الممارسة الدينية المصرية، ومجادلة "أصناف أرسطو" في السؤال والجواب، ومشكلات هوميروس في فقه اللغة ومعاني الكلمات والتعبيرات، وتعليق على نظرية الانسجام لبطليموس.

وكما كان معلّمه أفلوطين مؤمناً بتناسُخ الأرواح، كان هو أيضاً كذلك. ففي رأيه إن الخروج النهائي للروح من دائرة التناسُخ أمرٌ ممكن ويستحقّ السعي من أجله، يرى أن الغرض من نزول الروح إلى العالم المادي وإقامتها في الجسد؛ هو تعريفها بالشرور التي ترتبط حتماً بالنمط المادي للوجود. 

يمكن القول إن بورفيريوس دفع ثمناً باهظاً في ما بعد نتيجة تأليفه كتاب "ضدّ المسيحيين"، فقد أدّى ذلك إلى إحراق أعماله بقرارات من الأباطرة المسيحيين قسطنطين (272 - 337 م)، وثيودوسيوس الثاني (401 - 450 م)، وجراتيان (359 - 379 م)، ولكنْ في المقابل حظي بتكريم كبير من الفلاسفة المسلمين، الذين ألّفوا على منواله الكثير من الكتب المختصة بالمنطق. 


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون