لا يُفاجئنا الباحث السويسري باتيست برودار عندما يبدأ ورقته، التي تحمل عنوان "الإسلام الأصلي في أميركا اللاتينية"، بالقول إن دلالتَي "الإسلام" و"أميركا اللاتينية" قد تبدوان بعيدتين عن بعضهما في بعض المخيالات الثقافية. فنحن نتحدّث هنا، من ناحية، عن دينٍ لطالما ارتبط، في هذه المخيالات على الأقل، بالبلاد العربية، مع امتداد شرقي إلى "الهند والسند" وغربي حتى الأندلس؛ ونتحدّث أيضاً، من ناحية ثانية، عن قارّة ارتبطت منذ قرون بتاريخ من حملات التبشير الإنجيلية ومن التعاليم الدينية، الإجبارية في كثير من الأحيان (ترافقت مع الغزو الإسباني وإبادة حضارات شعوب أميركا اللاتينية)، إلى أن باتت غالبية سكّانها تدين، كما يعرف الجميع، بالكاثوليكية.
الأقلّية المسلمة حاضرة في كلّ بلدان القارّة؛ يزداد تعدادها ويقلّ بحسب السياق التاريخي لهذا البلد أو ذاك، وبحسب علاقة الهجرة العربية والمسلمة به. غير أن ما يهمّ برودار ــ في بحثه الذي نشره قبل أيام في مجلّة "دفاتر معهد ريليجيوس سكوب"، وفي المحاضرة التي ألقاها انطلاقاً منه يوم الثلاثاء الماضي، عبر تطبيق "زووم"، بتنظيم من "معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي" في مارسيليا الفرنسية ــ هو قبل كلّ شيء شريحة المسلمين التي لا علاقة لها بالهجرة، أي الذين اختاروا، أو اختار آباؤهم أو أمّهاتهم، أن يدينوا بالإسلام من دون أن يكون الإسلام دين أجدادهم، ومن دون أن يكونوا من أصول عربية أو مشرقية.
ظاهرة يُشير المُحاضِر إلى أنّها عرفت تزايُداً خلال العقود القليلة الماضية، حتى صرنا نرى بعضاً من الأحياء العشوائية بالبرازيل أو من القُرى والبلدات في كولومبيا والمكسيك ــ وهُما البلدان اللذان يشكّلان مركز اهتمامه في ورقته ومحاضرته ــ يعلن أغلب سكّانها، أو جزءٌ كبيرٌ منهم على الأقل، عن اعتناقهم الإسلام. بل إن الباحث يذهب إلى القول بأن أعداد معتنقي الإسلام من "السكّان الأصليين" تبدو "قادرة على تجاوز عدد المسلمين من أصول مهاجرة" في هذين البلدين الأخيرين، وهو السبب الذي دفعه إلى الذهاب إلى هناك، والقيام ببحثه الميداني الذي أفضى إلى دراسته.
معتنقو الإسلام اللاتينيون قد يتجاوز عددهم عددَ المسلمين من أصول مهاجرة
كيف تُفهَم ظاهرة "التحوّل الديني" هذه كما يسميها الباحث؟ تبدو أسبابها متعدّدة بتعدُّد الحالات تقريباً، كما يقول برودار، لكنّ هذا لا يمنع من العثور على روابط أساسية بينها. ويذكر هنا، بشكل أساسي، دور البعثات التبشيرية الإسلامية وشبكات المؤسسات الدينية ذات البنية والتمويل اللذين قد يكونان غامضين في بعض الأحيان، أو المنتميَين بشكل واضح إلى ما يسمّيه المُحاضِر بـ"السلفية الجديدة" في أحيان أُخرى. كما تحضر رغبة البعض في العثور على "بديل" عن بيئة ثقافية أو اجتماعية لا يجدون أنفسهم فيها، أو العثور على جماعة ينتمون إليها بعد قطيعة ما، كالخروج من سجن، أو ربما لتأسيس حياة فردية ثانية، و"الانطلاق من الصفر".
في هذا السياق، يلاحظ برودار اختلاف الأسباب عمّا قد يتوقّعه المخيال الغربي من مسألة "التحوّل الديني"، والتي كثيراً ما تُحال إلى "بحث روحاني" وتساؤل وجودي. المشترَك الأعمّ، في الحالات التي درسها برودار، هو البحث عن حلول اجتماعية، أو التأثّر بصداقات ومعارف.
وإذا كان التناغم والتكامُل حاضراً، في بعض الحالات، مع الجاليات المسلمة من المهاجرين، فإن المُحاضِر يشير أكثر من مرّة إلى أنه لاحظ تنافساً رمزياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً في حالات كثيرة أُخرى، وهو تنافُس يشرحه الاختلاف في فهم الإسلام بين المهاجرين، وفهمه بين كثير من أبناء القارّة "الأصليين". ومن ذلك مثلاً التنافس على الشرعية، التي يعتقد بعض المسلمين المهاجرين بأنهم أحقّ فيها، في حين أنّ على "المسلم المحلّي"، مثلاً، أن يُثبت معرفة فقهية ودينية وإلماماً بالعربية ليحصل على اعتراف من أقرانه المهاجرين بأحقّيته في أن يكون إماماً، وهو ما يفسّر بعض الحالات التي لا يجري اختلاطٌ فيها (في المساجد مثلاً) بين مهاجرين و"أصليين".
كما يهتمّ الباحث السويسري بكيفية تحوّل الخطاب الإسلامي في سياق لاتيني، حيث يجري التعامُل مع بعض المبادئ والسلوكيات الدينية والثقافية بطريقة تختلف عما هو شائع في المخيال الإسلامي التقليدي. ومن ذلك، مثلاً، شربُ بعض المسلمين من أبناء القارّة الكحولَ أو تناولهم لحم الخنزير، وهما من السلوكيات الشائعة في محيطهم. ومن ذلك أيضاً توقُّفُ بعضهم عن الاعتقاد بالدين الإسلامي، بعد أن تحوّلوا إليه، أو بعد أن اعتنقه آباؤهم وأمّهاتهم، وهي ظاهرة أندر حضوراً لدى المسلمين من المهاجرين.