بابلو بيكاسو.. "نساء الجزائر" وجدل التحرّر

06 مايو 2021
(من سلسلة "نساء الجزائر"، المعروضة حالياً في "متحف بيرغروين")
+ الخط -

في عام 1962، رسم بابلو بيكاسو بورتريهاً للمناضلة الجزائرية جميلة بوباشا (1938) تصدّر غلاف كتاب يحمل اسمها شارك في تأليفه مجموعة من الكتاب الفرنسيين، سعياً لإبراز قضية بوباشا في الرأي العام الفرنسي، والتي كانت معتقلة في سجون الاستعمار حتى استقلال بلادها.

ارتبط اسم الفنّان الإسباني (1881 - 1973) بالثورة الجزائرية، ليس انطلاقاً من دعمه السياسي لحقّ الشعوب في التحرُّر الوطني فحسب، بل لأنَّ مقاومة الجزائريين شكّلت، بالنسبة إليه، كما يرى بعض النقّاد، هاجساً في ما يتعلّق بتحرير الفن نفسه من النظرة الاستعمارية. هذا ما تُبرزه سلسلة "نساء الجزائر" التي يقدّمها "متحف بيرغروين" ببرلين في معرض يُفتتح بعد غدٍ السبت، ويتواصل حتى الثامن من آب/ أغسطس المقبل.

في شتاء عام 1954، وعلى مدار ثلاثة أشهر متواصلة، أعاد بيكاسو دراسة لوحات الفنان الفرنسي أوجين دولاكروا لنساء جزائريات في مسكنهنّ، ليهدم منظور دولاكروا الإكزوتيكي تجاه العالم الإسلامي، من خلال سلسلة ضمّت خمس عشرة لوحة زيتية وأكثر من مئة رسم من التخطيطات والمطبوعات. ولكن الملاحظات القليلة التي تركها بيكاسو لا تزال تثير الجدل حول موقفٍ حاسم لديه من الاستشراق الذي مارسه تشكيليون أوروبيّون، إذ يبدو - في ملاحظاته التي تركها - كارهاً للممارسات الاستشراقية في الفن، كما تظهر بعض النساء الجزائريات في أعماله محاصَرات بالعنف، وإظهار هذا العنف قد يُقرأ كموقفٍ نقديّ منه، لكن نقاّداً آخرين رأوا أنه لم يتخلّص من الرؤية الاستعمارية تماماً.

يرى البعض أن بيكاسو عكس موقفاً فنّياً وفكرياً مناوئاً للاستعمار

لم يرَ دولاكروا الجزائريات خارج الصورة النمطية في ذهنه عن المرأة كجزء من الحريم الشرقي، بأزيائها التي تكشف عن مفاتن جسدية، وطبيعة حياتها التي لا تتجاوز حدود الاستلقاء والكسل وشرب النارجيلة، ضمن مناخات تبعث على الغرائبية والإثارة، لتُصدر الكاتبة الجزائرية آسيا جبار مجموعة قصصية عام 1980 تحمل عنوان إحدى لوحاته ("نساء من الجزائر العاصمة في شقّتهنّ")، وتناولت نصوصها أوضاع المرأة الجزائرية خلال الحرب. ثم نشرت كتاباً آخر بعد نحو عقدين بعنوان "هذه الأصوات التي تحاصرني"، واحتوى مقالاتِها حول عدد من الفنانين الذين شكّلت الجزائريات موضوعاً لأعمالهم، والتي يرفقها المنظّمون مع كتالوغ المعرض.

بالمقابل، يرى البعض أن بيكاسو عكس موقفاً ذا خلفيات فكرية وأيديولوجية يسارية مناوئة للاستعمار الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، خلافاً لدولاكروا الذي عاش في زمن آخر ومثّل العين الذي نظر من خلالها المستعمِر إلى شعوب العالم باعتبارها غير متحضرّة، بما يسوّغ فكرة استعبادها بحجّة "تحديث" مجتمعاتها. بعض الأعمال التي رسمها بيكاسو ضمّت منحنيات بلمسة ناعمة وبألوان نابضة بالحياة لتصوير نساء الجزائر، بينما أتى الجزء الأهم منتمياً إلى المرحلة التكعيبية، حيث تبدو الزوايا حادّة وقاسية في رسم شخصيات سلسلته هذه، مع توظيف لدرجات مختلفة من اللون الرمادي.

أظهر بيكاسو أجساد النساء الجزائريات في حالات من التمزّق والعنف المعاش، مسقطاً هذه الأجواء على تفاصيل أجسادهن، وكأنّ الجسد يمثّل وسيطاً أساسياً للتحرّر من الاستعمار، سواءً بعُريه أو تشظّيه. هكذا، بدت الأثداء التي صوّرها كقنابل، في رأي بعض القرّاء، الذين التقطوا في هذا التصوير إشارة إلى قيام بعضهنّ بالتضحية بأنفسهنّ خلال المعركة.

ثمّة تأثيرٌ خفي في هذه السلسلة، يعود إلى الفنانة التشكيلية الجزائرية باية محيي الدين (1931 - 1998)، التي التقاها بعد أن أقامت معرضاً لها في باريس عام 1947، حيث اشتركا سويّة في العمل بمرسمه لحوالي أربعة أعوام، منجذباً إلى أسلوبها الفطري والعفوي في رسم الجسد.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون