المنشئ البغدادي.. رحلة كاتب فارسي إلى ديار الكرد عام 1821

07 مايو 2022
جبال كردستان كلها غابات وقبائلهم كثيرة (Getty)
+ الخط -

لجأ الكاتب الفارسي محمد بن أحمد الحسيني، الشهير باسم المنشئ البغدادي، إلى علم "المسالك والممالك" في صياغة أخبار رحلته إلى بلاد الكرد في العام 1821، وهو واحد من العلوم الجغرافية التي ابتدعها الجغرافيون المسلمون في العصر العباسي الأول، حيث يقوم هذا العلم على وصف الطرق، ومحطاتها، والأقاليم التي تتبع لها، مع سرد لأحوالها الطبيعية والبشرية والاجتماعية.

وكان المنشئ البغدادي يعمل سكرتيراً للمعتمد البريطاني المقيم في بغداد كلاوديوس جيمس ريج، وهو في الأصل موظف بدار الحكومة البريطانية في بومبي (مومباي حالياً) رافق مستر ريج في رحلته إلى كردستان العراق والموصل، وبعض المناطق المجاورة، بسبب معرفته بلغات وعادات المنطقة.

الهدف المعلن للرحلة كان ترويح المعتمد البريطاني عن نفسه، ولكن هذا الأمر لم يقنع والي بغداد حينها داود باشا (1767 - 1851 م) الذي اتهم مستر ريج بإثارة الفتن والقلاقل، وتأليب الأكراد على السلطنة، وهو ما أدى إلى نشوب أزمة دبلوماسية كبيرة في العلاقات بين السلطنة العثمانية وحكومة بومبي البريطانية، لم تنته إلا بنجاح ريج في الهرب من بغداد، بعد أن منع الباشا العثماني خروجه منها، وفرض عليه الإقامة الجبرية.

كتب المنشئ البغدادي رحلته هذه باللغة الفارسية، وترجمها وحققها قبل خمسة وسبعين عاماً المحامي عباس العزاوي، فكانت واحدة من المصادر المهمة عن أحوال إقليم كردستان العراق وبعض المناطق المجاورة له صاغها كاتب من أبناء الشرق لم يركن لأي معلومة جاهزة.


أحوال بغداد

يفتتح البغدادي رحلته بذكر تفاصيل الخلاف بين والي بغداد والمستر ريج بشكل مفصل، ثم ينتقل لوصف أحوال بغداد والمراقد والمعالم الرئيسة فيها فيقول: "بنيت هذه المدينة التي أسسها أبو جعفر المنصور الدوانيقي على جانبي نهر دجلة، ويرتبط جانباها بجسر على وجه الماء مستقر على سفن يبلغ عددها ثلاثين عند قلة المياه، وتبعد الواحدة على الأخرى خمس خطوات تفصل بينها، وعرض الجسر ست خطوات أيضاً. وفي الجانبين نحو مئة ألف بيت، وفيها مختلف الملل من كل مذهب، بينهم ألف وخمسمائة بيت من اليهود، وثمانمائة بيت من النصارى.

ويضيف: "هواؤها طيب، وماؤها عذب، ويشتد فيها الحر صيفًا فتبلغ درجته 108 فهرنهايت، وربما تزيد، والمواسم في الربيع والخريف والشتاء لطيفة، وفي الشتاء يجمد الماء أحيانًا وتقل الأمطار، ولكن لا يسقط الوفر، والقرى في أنحاء بغداد كثيرة".

ويعدد رحالتنا المراقد الموجودة في الكرخ والرصافة، وهما جانبا مدينة بغداد، ويصف أشهر المعالم فيهما قبل أن ينتقل لوصف الطريق من بغداد إلى كرمنشاه. وفي ذلك يقول: "تبعد بعقوبا عن بغداد ثمانية فراسخ (الفرسخ يساوي نحو ستة أميال) وهي من قرى خريسان، وتقع على الجانب الآخر من نهر ديالى، وفي شطي ديالى خمسون قرية معمورة، وفي هذه القرى أنواع الفواكه والكروم، ودود القز كثير فيها، ومن هذه القرى جيلان التي ينسب إليها الشيخ عبد القادر الجيلاني (الكيلاني). وفي وسط الطريق بين بغداد وبعقوبا على بعد أربعة فراسخ "خان النص"، المعروف عند العرب باسم "خان بني سعد"، وهناك نحو خمسين بيتاً من قبيلة بني سعد قربه. وقرى بعقوبا جميع أهلها شيعة ماعدا بهرز والوجيهية، فإنهم شافعية ولغة الكل عربية".


شهربان وخانقين

ويتابع: "من بعقوبا إلى شهربان سبعة فراسخ (حوالي 40 كم)، ولا يوجد خان في الطريق، وهذه الناحية لا تعد من خريسان، ويبعد نصف فرسخ عن الوجيهية بناء من الحجر المحكوك، والآجر والجص، وحيطانه من الآجر المنقوش، وارتفاع الحيطان عشرون قدماً، وطولها نحو مئتي قدم، وعرضها نحو خمسين قدماً، وفي كل جانب 14 برجاً مدوراً، وليس لكل جانب منها باب، والأعراب وسكان تلك الأنحاء يسمونها "زندان كسرى"، وقد حفرنا بالمساحي والفؤوس مقدار ذراعين عمقاً فلم نعثر على منفذ، ولم يظهر لنا أمر هذا البناء، والأهلون هناك يعرفون التركية والفارسية والعربية والكردية".

كرمانشاه - القسم الثقافي
كرمانشاه (Getty)

وفي الطريق من شهربان إلى قزلرباط يشير المنشئ البغدادي إلى وجود خمس قرى صغيرة في هذه الناحية، أهلها علي اللهية (أي علويون) يتكلمون الكردية، وقل من يتكلم التركية. ويصف قرية خانقين كما يلي: "خانقين، ويقال لها خان جيل، تبعد عن قزلرباط خمسة فراسخ، وتقع على جانبي نهر الوند الذي يأتي من جبال اللر، وفيها ألف وخمسمائة بيت كلهم كرد، وكسب الأغلب زراعة القطن والتبغ والأرز والحنطة والشعير، وفيها قنطرة كبيرة جداً، محكمة البناء عملها الشهزاد محمد علي ميرزا أيام كان والياً في كرمانشاه، وليس في العراق قنطرة تضارعها، والآن خانقين في حدود بغداد، والجانب الآخر من نهر الوند تحت حكم العجم، ومن محصولات تلك الأنحاء التين المعتبر. وفي خانقين خان كبير جيد كان بناه حاجي علي خان من كرد الزنكنة، الحاكم السابق على كرمنشاه، عمله للمترددين. وفي جميع أنحاء خانقين ألف فارس أقامهم والي بغداد في هذه الثغور للحراسة كمفرزة حدود".


قصر شيرين

ينتقل رحالتنا بعد ذلك للحديث عن قصر شيرين التي تبعد عن خانقين خمسة فراسخ (حوالي 30كم)، وفي وصفها يقول: "لها خان قديم، وأهلها من دركزين من السنة، وقليل منهم لغتهم التركية والأكثر كرد، وهم غدارون وسراق وبيوتهم نحو مائة، ويبعد عنها قصر شيرين القديم نحو فرسخ، وهو خراب واسمه القديم جلولاء، وفيه حارب سعد بن أبي وقاص يزدجرد إيران أيام خلافة حضرة عمر، وأكثر الحيطان والأبواب لا تزال قائمة، البوابة متكونة من أربعة صخور منحوتة نصبت الواحدة على الأخرى، وارتفاع البوابة اثنا عشر قدماً وعرضها سبعة أقدام، وجميع العمارات والبيوت هناك من الصخور التي لم تكن منحوتة، ويبلغ محيط البلد نحو فرسخ أو أزيد، وبعد فرسخ واحد عن ذلك المكان توجد عمارات وبيوت وأسواق كثيرة، ويسمى هذا الموقع حوش كره".

وبعد أن يصف البغدادي الآثار التي رآها في تلك المناطق يقول: "هذه المواطن لم يتردد إليها أحد حتى الآن، ونحن في سنة 1235هـ/ 1820م، ولا يستطيع امرؤ الوصول إليها إلا أن يصحب معه جيشاً ليدخل مواطن السراق أو قطاع الطرق، وهم من أكراد باجلان وقبائل الكرد الآخرين، بقينا 19 يوماً نتجول هناك متفرجين.. ومن قصر شيرين إلى "قنطرة زهاب" خمسة فراسخ، وهناك خان كبير على نهر الوند بناه محمد حسين خان قراكوزلو، وهو الذي أقام القنطرة، وأكراد باجلان يسكنون هناك ويأخذون الباج من المارة. وبلدة زهاب تبعد فرسخين عن القنطرة وتقع في لحف الجبل، فلا يهب فيها ريح الشمال، وبيوتها خمسة آلاف، وهي قاعدة أكراد باجلان، ورئيسهم يلقب باشا، وأكراد باجلان لهم نحو ثلاثمائة قرية، والبلدة رديئة الهواء والماء، فلو بقي المرء خمسة أيام أصابته الحمى، ولكن ريجاو من أعمال زهاب محل لطيف، طيب يصلح للإقامة، وفيها تين جيد، ويزرع أهلوها الحنطة والأرز كثيراً".


كرمانشاه

ويصف رحالتنا بعد ذلك محطات الطريق إلى كرمانشاه، فيعرج على هارون أباد المشهورة ببيع الخيول، ويشير إلى أن بعض أهلها يزيفون الخيل، فيقومون بصبغها وبرادة أسنانها وبيعها على أنها خيل فتية، وبعد ان تستقر عند مالكها الجديد تنكشف الحيلة. وفي وصفه لكرمانشاه يقول: "بلدة كرمانشاه ولاية معمورة، وتحوي ثلاثين ألف بيت، وكل أهليها من طوائف الكرد، ومن أشهرهم الكلهر، ويبلغون عشرين ألف بيت، والفيلية، وهم اللر، خمسة عشر ألف بيت، ومافي نحو خمسة آلاف بيت، والزنكنة ألفا بيت، ونانكلي ألفا بيت وكذا جيل وند، وبيرام وند، وهمة وند، وخواجة وند، ومجموعهم ألفا بيت، وعبد اللكي مائتا بيت، واللك والزند وهزارة والبيات يتكون منهم ألفا بيت، وكل واحد من هذه الطوائف يتفرع إلى عدة فروع وشعب، وإن لغة الأكثرية الكردية، وينطقون بالفارسية أيضاً، وكلهم شيعة، وعلي اللهية (علويون)، وفي أنحاء كرمنشاه نحو ألف قرية".


طريق بغداد السليمانية

بعد ذلك ينتقل المنشئ البغدادي للحديث عن طريق آخر من بغداد إلى السليمانية وكردستان، ويقول إن الطريق من بغداد إلى الجديدة خمسة فراسخ (حوالي 30 كم)، والطريق مستقيمة لا اعوجاج فيها، سهلة المرور بسيطة، ويعدد بعض المحطات إلى أن يصل إلى قرية تدعى قرة تبه، ويشير إلى أن سكان هذه النواحي، مثل دلي عباس، ومنصورية الجبل، وقرة تبه، على مذهب العلي اللهية (أي علويون) وفيها بعض الشوافع السنة.

ويحدثنا عن قرية تدعى كفرى يصفها بقوله: "كفرى بلدة طيبة الهواء والماء، وفي جانب منها جبل يأتي ماؤها من عيون فيه، وهو حلو جداً، وفي كفرى مائتا بيت، وفيها بساتين جيدة، وفيها البطيخ الأحمر المرغوب فيه، وأهلها ينطقون الكردية والتركية، وبعضهم سنة، والبعض الآخر علي اللهية. ومن كفرى إلى دوز خرماتو سبعة فراسخ، وفي الطريق قوري جاي، وهو النهر اليابس يجتاز منه، وفي تلك الأنحاء تسكن قبيلة البيات، ويقرب عدد بيوتها ألفي بيت، وأهلها يتكلمون الكردية والتركية والعربية، وبعضهم شيعي والآخر سني، وفي الجبل القريب من الدوز النفط الأسود والملح، وذلك المعدن يحصل من بئر بجانبه حوض كبير، والماء يستخرج من البئر والنفط يعلو الماء فيجمعونه ويبقى الماء في الحوض".

ويضيف: "في دوز خرماتو عنب وأنواع من الفواكه بكثرة، وهناك تمر ولكن بقلة، والشراب (الخمر) كثير. وجميع أهل القرى يشربون، وهناك مغنون، وبينهم من يضرب على العود، ولغتهم الكردية والتركية، وعقيدتهم العلي اللهية، يرعون الغرباء ويبرونهم، ويحترمونهم في ضيافتهم، ونساؤهم شهيرات بالحسن والجمال، ويقرب عددهم ألف بيت".

ويقول: "من دوز خرماتو إلى طاووق سبعة فراسخ، وفي الطريق نهران، وأحد هذين النهرين ماؤه مالح، وكان يقال لهذه البلدة في القديم "مدينة الدجاج" وكانت في أيام خلفاء بني العباس مدينة كبيرة. خارج البلدة منارة قديمة، وسورها قديم، وأهلها جميعاً على مذهب أهل السنة، وجميعهم يصلون، وفيها ستمائة بيت. ومن طاووق إلى ليلان أربعة فراسخ، هي من قرى كركوك، تتكون من ثلاث قرى صغيرة في قرية واحدة عدد سكانها جميعاً 1200 بيت، ولغتهم الكردية والتركية، وأكثرهم علي اللهية، وأقلهم شافعية المذهب، وهم أخيار يتوددون للغريب".


السليمانية وشهرزور

وبعد ذلك يصف لنا بلدات خرليلان التي تضم عرباً وكرداً، وجمجمال التي يغلب عليها الأكراد، وكذلك دركزين، وبادنجان وتبه رش إلى أن يصل إلى السليمانية التي يصفها بالقول: "من تبه رش إلى السليمانية ثلاثة فراسخ (حوالي 12كم)، والسليمانية بلدة فيها ستة آلاف بيت كلهم كرد شافعية، وفيهم نحو ثلاثمائة بيت يهود، وخمسون بيتاً للنصارى الكلدان، وهناك قاعدة حكومة ديار الكرد، وباشاوات بابان هم حكام الكرد وأكابرها، يقال لهم بابان، وأما الرعايا فهم كرمانج، وتكتنفها الجبال من جهاتها الأربع، وفي أنحائها نحو مائتي قرية، وأنواع الفواكه ما عدا التمر والنارنج. ماؤها من العيون والكهاريز. والسليمانية كانت قرية صغيرة يقال لها مركندي، ثم إن إبراهيم باشا البيه في سنة 1207 هجـ/ 1792 بنى فيها بيوتاً وأسواقاً وأسكنها أهل قلعة جوالان، وأتى بهم إلى مركندي، وسمى البلد باسم والي بغداد فقيل السليمانية".

ويمتدح رحالتنا صيف السليمانية، وكثرة ثمارها، وبرودة هوائها، ويقول إن لهذه البلدة توابع كثيرة، وجبل كويزة بقرب السليمانية، وبالقرب منه شهرزور. ثم ينتقل للحديث عن قرداغ ويقول إنه "يشتمل على نحو أربعمائة قرية في الجبل، وشهرزور فيها مائتا قرية، وتقع بين جبلين، وبازيان وحلبجة فيهما سبعون قرية، وقلعة جوالان مائة قرية وتكثر فيها البساتين والبطيخ الأحمر.

ويقول إن "جبال كردستان كلها غابات وأكثر أشجارها من العفص، وقبائلهم كثيرة، منها الجاف نحو ثمانية آلاف بيت، يرحلون في الشتاء إلى ما يقرب من بغداد، وفي الصيف يرحلون إلى المواطن القريبة من سنة، وخيالتهم مشهورون بين الأكراد، ومن توابع ديار الكرد، كوي سنجق، وحرير وخوشناو".

المساهمون